هل انتهى العمر الافتراضي للصحافة الورقيّة؟ هل نقرأ عليها السلام؟الذين يجادلون بغير ذلك يذكروننا بأنّ الإذاعة والسينما والتلفزيون لم يلغوا الحاجة إلى الصحافة المطبوعة، وأن كل وسيلة لها مزاياها. فالإذاعة تسمعها من دون أن تطالعها، خلال انشغالك بقيادة السيارة أو بنشاط رياضيّ أو منزليّ مثلاً، فيما يتطلّب التلفزيون وجودك في نفس المكان، وعيناك وسمعك على الجهاز في ظروف تفرّغ وهدوء وتركيز ملائمة. أما الجريدة أو المجلة، فيمكنك أن تحملها معك إلى أيّ مكان، تقرأها في المقهى، أو على البحر، في غرفة المكتب أو الصالون. مزايا الصحفوالجريدة تتميّز بالتوثيق، والتفصيل، والتحقيق. فهي تنشر الخبر، وتحلّله، وتستكتب مَن يعطيك رأيه فيه، ثمّ تفتح الباب للتعليقات والمتابعات. وتتميّز بالتحقيقات الاستقصائيّة التي تبحث عن الحقيقة أينما كانت، وتتبع خيوطها، وتعرض أدلّتها، وتناقش مع الخبراء والمختصّين مختلف جوانبها؛ وتمنح لذلك مساحة لا تسمح بها ظروف البرامج التلفزيونية والإذاعية السريعة الإيقاع. فعلى سبيل المثال، قد يكون الإعلام الجديد أسبق إلى خبر إعلان ليز تراس، رئيسة وزراء بريطانيا، أنها ستعيد النظر في اتفاق بريكست مع إيرلندا الشماليّة، والرّد الأميركي السريع بعدها بساعات من الرئيس بايدن بأنّه إذا تمّ ذلك فعلى بريطانيا أن تنسى إمكانية توقيع اتفاقيّة تجارة حرة مع أميركا. لكن الصحف هي الأقدر على دراسة تأثير ذلك على العلاقات بين الحليفين التقليديين، واقتصاد البلدين، والاتحاد الأوروبي، وغيرها من التداعيات السياسية والاقتصادية. ثمّ هناك الورق المطبوع الذي يسمح لك بالحفظ والأرشفة، وإعارة أو إتاحة أقسام مختلفة لأكثر من قارئ؛ وهناك إعلانات المتاجر بتخفيضاتها وعروضاتها، وقسائمها، والإعلانات المبوّبة وأخبار الوفيات والمناسبات الاجتماعيّة؛ وهناك الاستخدامات الأخرى لورق الصحف القديمة، كإعادة التدوير، وتغليف البضائع، وموائد الطعام، ووقود النار. تحوّلات المنطق السائدكان هذا هو المنطق السائد خلال دراستي الإعلام في الولايات المتحدة، في التسعينيّات، وروّجه ناشرو الصحف للمعلنين والممولّين، وأقنعوا به أنفسهم وطلاب المستقبل، مثلي. فبالرّغم من أنّ مواقع النت بدأت تنافس الصحافة الورقيّة، في ذلك الوقت، وأنّ صحفاً كبرى، كالنيويورك تايمز والواشنطن بوست و”وول ستريت جورنال”، بثّت صحفها “أونلاين”، وفرضت اشتراكات عليها، فإنّ شَرطيَّة التواجد أمام شاشة الكمبيوتر والاتصال بالشبكة عبر “موديم” بطيء ومكلف، حدّت من مخاوف دور النشر. لكن كلّ هذا تغيّر في الألفيّة الثانية. ففي دورة إعلامية بكليّة الصحافة، في جامعة نورث ويسترن، في العام 2006، تحدّث البرفسور الزائر عن “موت الصحف” من خلال نتائج دراسة شملت المنتجات المستقبليّة، وأهمّها الهواتف الذكية. نقلت هذه الدراسة لصحيفتي، وقتها، جريدة “المدينة المنورة”، ومعها تنبّؤ صاحب الدراسة ببدء إغلاق الصّحف على نطاق واسع في الـ2020، وتحذيره من ضرورة التحوّل الرقميّ قبل وقتٍ كافٍ، لكسب الجمهور في مواجهة “صحافة المواطن” المتمثّلة في النشاط الفرديّ لمشاهير وناشطين لا يكلّفهم عملهم الصحافيّ أكثر من جهاز محمول باليد، يرصد الأحداث من مواقعها، وينشرها في حسابات ومدوّنات لا تخضع للرقابة ومتاحة مجاناً للمتابعين. التحوّل بلا تحوّلالمشكلة أن أكثر الصحف التي استجابت لهذه النصائح اكتفت بنقل المحتوى المطبوع إلى مواقعها على النت. وبالتالي، أوجدت بديلاً مجانياً لقرّائها بتكلفة عالية عليها نتيجة لعدم إقبال المعلن. وما فاتها أنّ المنافس الفرديّ لا يتحمّل أيّة تكاليف تذكر، ولا يهمّه الربح، ويتحرّك بحماس شديد، وسرعة فائقة، ومرونة عالية، ليلبّي احتياجات شريحة محدّدة من المتابعين، المهتّمين بالمحتوى الذي يقدّمه، غير آبه بالقيود المهنيّة التي تكبّل الصحافة التقليديّة. أما الصحف التقليديّة، التي نجحت في التحوّل، فقد بدأ القائمون عليها من الصفر، لينشئوا صحفاً “مختلفة” في تركيبتها وطريقة عرضها وأسلوبها، بما يستوعب التحوّلات في ذائقة القارئ الجديد، واستفادوا من مزايا الرقمنة، خاصة من ناحية السرعة والمرونة والتوفير. وفي نفس الوقت الذي ركّزت فيه صحفهم الإلكترونية على مجال أو مجالات معيّنة، كالسياسة والاقتصاد والرياضة والفنّ، لبّت اهتمامات أخرى، وإن بدرجة أقلّ، كالقضايا المجتمعيّة والتعليميّة. ولأنّها مرخّصة رسمياً، فهي تخضع لقوانين النشر والرقابة الرسميّة، وتراعي المسؤوليّة الاجتماعية والثقافية والأمنية. وفي المقابل، تتمتّع بدخل إعلاني مجزٍ، وكافٍ لتغطية مصاريفها المحدودة. عزوف المعلنأما الصحف المطبوعة، فقد تدهورت مبيعاتها بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية، وانخفضت نسبة الإعلانات نتيجة لتعدّد وسائط الإعلان وتفوّق الإعلان الرقميّ (سواء على شاشات الطرق أو على النت)، من ناحية سرعة النشر، ومرونة تغيير الرسالة، ودقة الوصول إلى بيانات المتابعين، وسهولة التواصل مع المهتمّين منهم. فشركات التواصل الاجتماعي كاليوتيوب وإنستغرام وتويتر تُتيح لك معلومات دقيقة عن كلّ مَن شاهد الإعلان، تشمل مدّة المشاهدة، وعددها، وتعليقاتها، ومواقع المتابعين الجغرافية، وفئاتهم العمريّة، وغير ذلك من المعلومات الإحصائيّة المفيدة؛ وكلّ هذا بتكلفة أقلّ بكثير من إعلانات الصحف. انخفاض التمويل والدعمومن جانب آخر، أدرك المموّلون والداعمون والمساهمون هذه الحقائق، فانخفض الدّخل العام لدور النشر، وبدأت بتقليص الأقسام والصفحات والعاملين. وأكثر من تخلّت عنهم هم أفضل الصحافيين والكتّاب، نظراً لارتفاع رواتبهم. وبدأت بذلك دورة هبوط، نتيجة لانخفاض مستوى الصحف، وفقدانها مزايا التوثيق والتحليل والتحقيقات الاستقصائية. أضف إلى ذلك ارتفاع تكاليف الطباعة والتوزيع، حتى شهدنا إغلاق صحف عريقة، وتحوّلها إلى صحف رقميّة، وفشلاً ماليّاً لصحف أخرى لا تزال تُعاند التيّار وتواصل النزيف، وتصدر بصورة تشبه الهياكل العظميّة، ضعفاً ونحولاً ومواتاً. ولم تنج من المعاناة حتى الصحف المدعومة من الحكومات والأحزاب، لأن البدائل الرقميّة أوفر وأجدى. التلفزيون أيضاً!وليست الصحف وحدها مَن تعاني في هذه المرحلة. فالتلفزيون أيضاً يدفع ثمن هذه التحوّلات. ويمكنك قياس ذلك برصد أرقام الإعلانات التجارية التي أصبحت تشكّل نسبة ضعيفة من المحتوى العام. والسر أنّ المصدر الرئيسيّ للمعلومة أصبح الهاتف الذكيّ، وتطبيقات التواصل الاجتماعيّ، بنسبة تصل في السعودية إلى أكثر من 80 في المئة من الجمهور. وسهولة فتح حسابات الوسائل المتعددة، في قنوات كاليوتيوب وسناب شات، وتطوّر الكاميرات في الأجهزة الذكية، مكّن كلّ مستخدم من البثّ المباشر لجمهور محليّ ودوليّ لا حدود له، وبكلّ اللغات؛ وحقّق لبعض “المؤثرين” و”مشاهير التواصل الاجتماعي” ملايين الدولارات، من إيراد ملايين المتابعين الذين يثقون بكلامهم، ويصدّقون ترويجهم، ويقلّدون أسلوب حياتهم، ويقتنون ما ينصحون به من منتجات. هل سنشهد “موت التلفزيون” أيضاً؟ ربما نشهد موت التلفزيون التقليديّ، خلال عقد أو عقدين. أمّا الذي سينجو فهو التلفزيون الرقميّ، الذكيّ، الذي يعتمد على الرقمنة، والذكاء الاصطناعي والاتصال الفضائيّ، في تخفيض نفقاته، وتنويع مواده، وتخصّصاته، وتصميمها لكلّ فئة عمريّة، وجنسيّة، وجغرافية على حدة. “الفرقة الناجية”والقنوات التي ستستفيد من هذه التحوّلات هي تلك التي يصلك محتواها عبر الأثير، والواي فاي، من خلال التلفاز واللاب توب والجوال، والتي تعتمد أسلوب التواصل الفوري مع الجمهور بإتاحة ميزة التفاعل المباشر، ومتابعة التطورات المتسارعة في هذه المجالات وغيرها ممّا يستجد، للبقاء متقدّمة خطوة أو خطوات على المتابعين والمنافسين على السواء. السباق على أشدّه، والتحولات على أشدّها، والمتغيّرات أكثر من الثوابت. إلا أنّ الواضح أن عالم الإعلام بعد “الآي فون” ليس كما قبله، وأن “صحافة المواطن” الرقميّة هي صحافة المستقبل. أمّا المطبوع والتقليدي فإن لم يعلن موته، فهو يعيش في الوقت الضائع في غرفة الإنعاش، وعلى المتفائلين بتغيّر الأحوال وعودة الماضي التليد أن يعيدوا حساباتهم. فخير لهم أن يقطعوا الأمل بالنجاة، ويوقوا نزيف خسارتهم بإعلان موت الميت، ومولد الإعلام الجديد. طوبى للمتغيّرين!
المصدر: “النهار”
د. خالد محمد باطرفي