نقلاً عن “الجزيرة”
شكلت تسعينيات القرن الماضي محطة فارقة في سيرورة المقدسات العربية بفلسطين، وذلك عقب قرار الحكومة الإسرائيلية استثناء المقدسات من الخارطة الهيكلية القُطرية، وهو ما يعني شرعنة سلبها وتوظيفها لمشاريع التهويد والاستيطان.
وحفزت هذه المخططات “مؤسسة الأقصى للوقف والتراث” لتكثيف الجهود لأرشفة المقدسات وتاريخها ومشاريع الإعمار والصيانة بالقرى المهجرة والمدن الساحلية، وإفشال مخططات التهويد والاستيطان التي تهدد الوجود المستقبلي لما تبقى من مقدسات إسلامية ومسيحية ومعالم دينية مدمرة ومتناثرة.
وتوجت المؤسسة نتاج عملها الميداني الذي استمر على مدار عقد ونيّف من المسح الشامل للمقدسات والقرى والمدن التي دمرتها إسرائيل بـ”موسوعة المقدسات في فلسطين” التي تعتبر الأولى من نوعها، حيث قامت الطواقم المهنية من مهندسين ومعماريين ومؤرخين وباحثين بإحصاء نحو 1009 مواقع إسلامية ومسيحية في 243 بلدة مهجرة.
وتضم الموسوعة مسحا شاملا للمقدسات الإسلامية والمسيحية من قيساريا بالساحل حتى شمال فلسطين، التي وثقت بالزيارات الميدانية للمعالم الدينية وإفادات مَن عايشوا النكبة والتهجير حول المقدسات ومعالمها المدمرة والباقية، إلى جانب كتابة الرواية الشفوية والبحثية التاريخية عن كل بلد وموقع، وتم تعزيز ذلك بصور أرشيفية ومشاهد فوتوغرافية معاصرة وتصوير جوي قديم وحديث.
كما وثقت الموسوعة بشكل منهجي بالخرائط والمخططات الهندسية والمادة البحثية التاريخية 161 مسجدا، دمر أغلبها وحول لكنس ومطاعم وخمارات أو يستعمل في غير أهدافه، كما أُحصيت 41 كنيسة، ست منها هدمت ولا تصلح للصلاة، وتم مسح شامل لـ441 مقاما وظفت في معظمها للتهويد والاستيطان، والمصير ذاته واجهته المقابر الإسلامية والمسيحية، حيث رصدت 383 مقبرة طمست في غالبها وأقيمت على أنقاضها مشاريع للإسكان والتجارة.
وتم تحضير مخطط هيكلي للمقدسات في فلسطين يتحدى آلة الطمس والهدم، ويشكل المخطط مرجعية لتدويل ملف المقدسات، وسيطرح على المحافل الدولية والعالمين العربي والإسلامي بغية ممارسة الضغوط على الحكومة الإسرائيلية وإلزامها بالمصادقة عليه والاعتراف بالمقدسات تمهيدا لاسترجاعها.
تصور مستقبلي
واستعرض رئيس “مؤسسة الأقصى” المهندس محمد جبارين الموسوعة وما تحوي من وثائق ومستندات تاريخية وخرائط المساحة التي تعبر عن التصور المستقبلي للإنشاءات المعمارية للمقدسات والقرى بمقياس رسم صحيح ودقيق يضم المخططات الهندسية حسب الموقع بالتجمع السكني.
ولفت جبارين في حديثه للجزيرة نت إلى أن مشروع المسح الشامل والدليل الكامل للمقدسات الذي كلف نحو مليون دولار لإنجازه، تكلل بحوسبة المخططات الهندسية لتبقى مستندا يفند المزاعم والتزييف الإسرائيلي بقرصنة المقدسات، حيث تمت الاستعانة بالخرائط التي أعدت زمن الانتداب البريطاني ودراسة السجلات الوقفية ووثائق المجلس الإسلامي الأعلى والمحاكم الشرعية لإنجاز وحوسبة كافة الخرائط.
ورافق محطات تحضير الموسوعة المؤرخ جوني منصور الذي أسهم في مراجعة النصوص والرواية الشفوية والإفادات ممن عايشوا النكبة بفصولها، وكتابة المادة البحثية التاريخية عن البلدان المهجرة بما يعكس الواقع والصورة الراهنة للمقدسات الإسلامية والمسيحية.
وقال منصور في حديثه للجزيرة نت “تأتي الموسوعة لتقدم وثيقة حول الوضع الراهن للمقدسات وما آلت إليه بعد النكبة وجرائم الطمس والتدمير المتواصلة، لكن يبقى الأهم وهو التصور المستقبلي، إذ وضع القائمون على المشروع هدف “اعرف مقدسات وطنك”، وتقدم الموسوعة المعلومات للنشء بصقل الهوية وتعزيز الانتماء في ذهن الشباب وترسيخ المعرفة التي تعتبر أهم سلاح لدى أجيال المستقبل”.
التمهيد للعودة
أما رئيس الحركة الإسلامية الشيخ رائد صلاح -صاحب الفكرة والمبادر للمشروع- فقد أكد أن الحكومة الإسرائيلية عمدت في تسعينيات القرن الماضي إلى تنفيذ مخطط التصفية العلنية للمقدسات الإسلامية والمسيحية، إلا أن التنبه للأخطبوط الاستيطاني والتهويدي ومحاولة إقصاء المقدسات عن الخرائط الهيكلية تمهيدا لاستباحتها وسلبها فضح الأمر وحال دون ذلك.
وأوضح الشيخ صلاح في حديثه للجزيرة نت أن المقدسات التي تشكل الهوية العربية والإسلامية لفلسطين تعرضت لعملية سطو وقرصنة، إذ تعمدت إسرائيل عدم الاعتراف بها ونزع الشرعية عنها وسمحت باستباحتها وتوظيفها للتهويد والاستيطان بذريعة الإعمار والإسكان.
بيد أن الداخل الفلسطيني -كما أكد الشيخ صلاح- واجه هذه المخاطر المحدقة، وتم تكثيف مشاريع الرباط وصيانة المقدسات والتواصل مع القرى المدمرة، ليأتي مخطط المسح الشامل لمقدسات فلسطين متحديا آلة الهدم والطمس والحفاظ على المقدسات وهيكلتها، وممهدا لعودة الشعب الفلسطيني.