في هذه السلسلة ، سأحاول أن أتطرّق إلى موضوعٌ لطالما يشغلُ تساؤلات كثيرة ، وتضاربات ، وشكوك ، وآهات .. ولعلّ سفرُ التكوين، بصورة ٍ عامّة ، من أكثر الأسفار التي يصعُب على الكثيرين فكّ ألغازه ؛ قد يكونُ السبب الأوّل : الوقوعُ في حرفيّة أصوليّة تبعدُنا عن الجوهر ! . والسبب الثاني : عدمُ دراية وبُعد نظر ٍ واسع المدى للمنهجيّة التي كُتبَ بها السفر ! . فالبعض لا يعرفون أنّ قصّة الخلق، إن كانت خلق الكون أم خلق الإنسان ، كُتبتنا في زمنين مختلفين ، وبتأثير الآداب المجاورة وأساطير الشرق القديم التي كانت معاصرة في ذاك الوقت ( ولا نقدرُ أن نخلعُ المرءَ من زمنه ونضعهُ في زمن ٍ آخر ليس زمنه ! ) .
على أيّ حال ٍ ، لا أريدُ كالعادة ، أن أُطيلَ عليكم القضيّة . سأدخُل في الموضوع فورًا ، ومؤكّد أني سأضعُ لكم بعضا من المعلومات حول كيفيّة كتابة قصّة خلق الإنسان ، والتي هي القصّة الأقدمُ من قصّة خلق الكون ( الكهنوتيّة) . فقصّة خلق الإنسان هي ” يهويّة “. كُتبت القصّة الآولى (خلق الكون) في القرن العاشر ق.م ، في حين القصّة الثانية في الفصلين الثاني والثالث كُتبت في القرن الخامس ق.م. الروايةُ الآولى للخلق كان الهدف منها ، تصحيحُ الأخطاء الشائعة في هذا العصر عن الخلق وعن الله . لذلك ، نلاحظُ أنّ الكاتب متأثّر، بعض الشيء ، بالأسطورة السابقة عن الخلق ، لكنّه صحّح المفاهيم الخاطئة وأعطاها صيغة مقبولة دينيّا .
في المتابعة الدائمة للحلقات التي سأضعها ، ستتوضّح الصورة أكثر . فلابدّ أيضًا ، ونحنُ نتكلّم عن خلق الإنسان ، أن نتطرّق لموضوع
” التطوّر” . فهو سيُلاحق فكر القارئ وهو يقرأ الحلقات ! . فكيفَ نفهمُ ما يقولهُ الكتاب المقدّس ، ” لنعمل الإنسان على صورتنا كمثالنا ” ؛ ونحنُ نعرفُ أنّ الإنسان هو مسيرة تطوّر ! . ومعارضو نظريّة التطوّر يتساءلون : كيف نربطُ بين تطوّر الإنسان وما جاءَ في الكتاب المقدّس من أنّ الله خلقَ الإنسان على صورته ومثاله ؟ فهل تتغيّر صورة الله ؟ .
سنحاول في هذه الحلقات ، بصورة خاصّة ، أن نعطي شرحًا للآية أعلاه التي تقول: ” لنصنعَ الإنسان على صورتنا كمثالنا … ” (تك 1 : 26) . فهذه الآية ، لوحدها ، تحتاجُ لتفسيرات كثيرة . سنراها من منطلقين : ألا وهما منطلقُ انثروبولوجي ، ومنطلق فكر الآباء ، الذين ، في كثير من الأحيان ، هم أيضا منطلقهم ” أنثروبولوجي ” . كانت هذه مقدّمة بسيطة .
يتبعْ
زينيت