منذ ولادتها وُلدت لأبوين عاقرين هما يواقيم البار وحنة، وكانا قد نذرا مولودهما للهيكل قبل الولادة؛ وربما كانا يتمنيان ولدًا ذكرًا ليحمل اسم الأب كعادة أهل الشرق؛ لكنها قدمت أنثى؛ ولكونهما نذراها، فقد سكنت الهيكل ليكون بيتها الأول والوحيد مع النذيرين، وعندما كبُرت وبلغت التغيرات الفسيولوجية تبدو عليها، وقعت القرعة على يوسف الشيخ البار ليأخذها إلى بيته، خاصة بعد انتقال والديها المتقدمين في السن عند بلوغها التاسعة من عمرها.
ومنذ ذلك الحين وإلى أن أتتها البشارة بالحبل الإلهي وعلاماتها، التي تلازمت مع الشك والريبة بآلامها النفسية والجسدية، حيث راحت مريم الفقيرة النذيرة تتحمل آلام أمومتها الإلهية منذ البشارة؛ وما صاحبَ ذلك من شك عند يوسف البار الذي أراد تخليتها سرًا، ورحلة ولادتها لابنها في بيت الناصرة؛ لا كسائر الأمهات اللائي يستعدن لولادة أولادهن، لكنها تكبدت مشاق السفر المضني من الناصرة إلى بيت لحم لتكتب المولود في اكتتاب الإحصاء العام، ولكي يظهر المسيح في مكان مجد يهوه، وفي بيت أبيه ونسبه لذرية داود الملك؛ حيث أتتها آلام المخاض؛ ولم يكن لها موضع سوى مزود المغارة، التي تحولت إلى سماء ونجوم وتسبيح وسجود وهدايا وملائكة وهتافات علوية بمجد الأعالي وسلام الأرض ومسرة الناس، حيث عظمة العلى.
قد حولت الأرض سماءً؛ وجعلت المغارة لا تقترب، لأن النور أشرق ومحا الظلام؛ والغنىَ حلَّ عوض الفقر والقحط، وفي الموضع وُلد راعي الحُملان الناطقة الذي أتى ليحول بهيميتها إلى إنسانية الخليقة الجديدة.
ثم سُمع صراخ الرامة ومخاوف مجزرة أطفال بيت لحم؛ وعويل وصوت الأنين، على هؤلاء الذين فدوا بشهادة دمهم الطفل المولود؛ وما تبع ذلك من هروب وآلام نفي وتشريد ومشاقات تكبَّدتها مريم العذراء، وحتى رجوعها في عودتها وسط الأتعاب، التي استمرت عند بحثها عن الصبي في الهيكل وحنق الكتبة والفريسيين عليه، إلى يوم القبض والمحاكمة والصلب والتكفين والدفن ثم استضافتها في بيت يوحنا الحبيب، وسط رحلة آلام ودموع؛ بقدر ما سال من دم جراحاته الشافية المشفية.
قبلت الآلام وخضعت للناموس وصعدت إلى الهيكل لتقدمه إلى بيت أبيه وهي عالمة أنه ابن العلي وأنه هو رب الهيكل وبانيه، وأنه هو كلمة الله ذبيحة العالم كله، قدمته بأمومتها المسيانية كصعيدة الصعائد؛ وكمحرر للعالم من أسر إبليس المنجوس، لكنها ومع ذلك خضعت للشريعة وفي فقرها قدمت فرخي الحمام، بيقين أنّ ابنها هو مكمل الناموس، وهو العلامة الوحيدة الحية للخلاص الفصحي علي الصليب.
قدمته مما له على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال، وهو وحده مِلؤها وتقدمتها الممكنة والمقبولة أبديًا، غفرانًا للخطايا؛ ونور مجد الأمم؛ وعزاء خلاص الشعوب، لكنه في الوقت عينه هو العبد المتألم الذي تمجد بالآلام، وبذل ظهره لسياط الضاربين وخده للناتفين وترك وجهه للبصاق والتعيير، حتى أن صورته لم تكن لتُنظر ولم يكن له بهاء منظر، مزدرىً ومرزول وهو رجل أوجاع ومختنر حزن (إش).
لذلك وبذلك جاز السيف الطويل المخيف romphaia عبر حياتها كلها، في فقر وشكّ ومخاض وآلام ومطاردة ووجع وعُري وجلد وهُزء وشوك ومسامير وصلب ودموع، حتى المعصرة والجلجثة.. وها الكنيسة على مثال العذراء مريم تتألم حتى اليوم، وتسجل كل يوم رحلة صليب العبد المتألم والقائم من الأموات، في شركة الطريق؛ لأنها لا تعرف شيئًا إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبًا، وتتمم في جسدها (أعضائها)؛ ما نقص كمطابقة المثيل لمثيله.
فيا عذراء يا أم العبد المتالم اشفعي في المشردين والمنفيين والمنحورين في عالمنا، لأن شفاعتك قوية ومقبولة؛ وقد غيرتِ الأزمنة في قانا الجليل فغيري الأزمنة؛ يا قوية في الحروب ومعدن الجود والبركات.