يوم معموديتك يا سيدنا هو عيد الأنوار ومجد ظهور الثالوث القدوس الفائق التمجيد، حيث عاد إلينا النور الذﻱ أخذناه منذ البدء؛ لكننا سوَّدناه وجعلناه باهتًا بسقوطنا… وها هي الفرصة لإعادة الجبلة لتصير سماوية وتستنير في خط المعيَّة الإلهية… تخرج من سطوة كل ما هو أرضي ومن كل ما يخضع لدائرة الزمن؛ لنذوق عظائم أنوار الثالوث؛ وننزل معك يا مسيحنا إلى النهر لنرتفع؛ كما نزلتَ في تجسدك وفي عمادك وفي نزولك إلى الجحيم… لتُصعدنا معك إلى مجد سماواتك التي انفتحت وانشقّت هذا اليوم. تلك التي أغلقها آدم دونه ودون نسله من بعده؛ حيث أُقيمت الحربة اللهيبية على باب الفردوس… لكن معموديتك اليوم تُبيِّضنا كالثلج وتغسل ضمائرنا الميتة وتطهر حياتنا وحواسنا وتُعيدنا إلى رتبتنا الأولى مع كل الموسومين بها.
في يوم معموديتك يا سيدنا تذكار أسرارك المقدسة وتدبيرك العجيب الذﻱ أكملته لتُعيدنا إلى جمال صورتنا الأصلي. اعتمدت من يوحنا حتى تغسل مَنْ قد تدنس؛ وتُحضر الروح القدس من العلاء وترفع الإنسان إلى السماء؛ بعد أن أظهرتَ برك وقدست ذاتك لأجلنا؛ كي نكون مقدسين في الحق. حَلَّ عليك الروح القدس لأنك لابس جسدنا نحن ؛ حَلَّ عليك لأجل تقديسنا نحن فيك؛ حتى ننال شركة مسحتك وحتى نغتسل نحن فيك وبواسطتك.
وامتدادًا لتجسدك وإخلائك أتيتَ يا سيدنا إلى يوحنا ووقفت وسط الناس وفيما بينهم؛ وقفت وأنت العريس أمام صَديق العريس… الشمس أمام السراج؛ الكلمة اللوغوس أمام الصوت الصارخ؛ السيد أمام الخادم؛ الملك للعبد؛ العريس للإشبين؛ بِكر كل خليقة للفريد في مواليد النساء؛ المسجود له أمام أول الساجدين؛ الديان أمام الأثمة؛ الراعي أمام خروف من القطيع؛ العِرْق والأصل قدام الفَرْخ… هكذا جئتَ لتعتمد… إتضاعك يضيء عظمتك. فأتيت مع الباقين لتعتمد من خادمك الذﻱ لم يكن أهلاً أن يحُل سيور حذائك.
أقبلتَ إلى يوحنا في بساطتك المتناهية ونزلت عاريًا إلى المياة؛ مرتضيًا أن يضع يوحنا يده على رأسك؛ بينما أنت هو الذﻱ فوق كل رئاسة وسلطان. لذلك ارتعدت عناصر الطبيعة وفرّت المياة مذعورة من أمامك.
في يوم معموديتك جئتَ طواعية إلى ضفاف نهر الأردن؛ وأنت خالق الكل مثل المطر والينبوع؛ وإندفقتَ كنهر غامر يفوق كل قياس؛ لأنك نهر الحياة غير المحدود؛ ولأنك مجرىَ المياة الذﻱ يُفرِّح مدينة العلي… أتيتَ وأنت الغمر لتغطس في القليل من الماء!!! أتيت وأنت الحاضر في كل مكان وما يخلو منك مكان. أتيت بمسرتك الصالحة يا سيد الكل؛ وإذ بالبحر يهرُب من أمامك؛ ويرجع إلى خلف؛ عندما نظرك يا خالق الكل؛ لأنك أتيت كطبيب وليس كديان.
أتيتَ لتخلصنا لا لتديننا ؛ وتبلُغ بنا النجاة والخلاص بظهور الثالوث المُحيي… فمن الآن وصاعدًا صارت أبواب السماء مفتوحة؛ وصار روحك القدوس معنا إلى الانقضاء؛ لأنك لم تتركنا يتامىَ؛ بل دعوتنا أبناءً وأحباءً لك؛ ومنك نستمدُّ حضورنا الحاضر والعتيد.
ومثلما رفض بطرس أن تغسل قدميه؛ هكذا صرخ يوحنا بأنه هو المحتاج لأن يعتمد منك. فكيف إذن تأتي أنت إليه؟! لكنهما (يوحنا وبطرس) لم يكونا يعلما ما أنت صانع الآن؛ لكنهما سيفهمان فيما بعد. قبلت المعمودية على يد الأصغر والأقل لأنك تواضعت في ميلادك ومعموديتك وصليبك وتدبيرك بالكلية. غسلتَ أرجل عبيدك لتعلمنا بالعمل وبوسيلة الإيضاح أن هذا هو المدخل الأساسي والوحيد لتكميل البر… لتعلمنا أن الإنحناء والتواضع والدعة وغسل الأرجل هي أساس كل بر. وقد أزلت عنا عار العصيان وغطرسة آدم ورفضه الخضوع للوصية. إنها دعوتك لكي نسلك كما سلكت… فالعبد ليس أفضل من سيده!!! دعوتنا أن نكُفّ عن مشاجرة مَنْ هو الأكبر فينا!!
فلم تأتِ في مجدك كي تعتمد؛ ولا في رداء الملوك القرمزﻱ؛ بل تقدمت كطفل وأنت يافع ابن الثلاثين. تقدمت لتكمل الناموس والبر؛ بينما أنت مُكمِّل وغاية الناموس. قبلتَ العماد حتى لا يحتقر أحد نعمة المعمودية والأسرار؛ وحتى لا يتأفف أصحاب الذهنيات الأرستقراطية ؛ حينما يعمدهم كاهن بسيط.
لذلك عند نزولك إلى مياة الأردن؛ سمعنا شهادة أبيك علانية لنعلم أنك الابن الوحيد الجنس والواحد مع الآب في الجوهر. وقد علمتنا بالحقيقة أن تكميل البر هو في قاعدة (أيهما أبَرُّ ؛ لا أيهما أكبر) وفي خضوع الأكبر للأصغر؛ وهذا هو البر الحقيقي.
كملت الناموس كله وأنت واضع الناموس… تمَّمت الوصايا وكملتها وأنت المشرِّع الإلهي؛ لكنك بهذا أردت أن ترفع لعنة الناموس والتعدِّﻱ؛ لتفتدﻱ الذين تحت الناموس. فكمّلت كل شيء لتخلصنا من الحُكم ؛ وتعبر بنا في نهر الأردن إلى النعمة؛ فاتحًا أمامنا باب السماء التي إنشقّت؛ ولتُزيل عنا عار اللعنة والعجز؛ وتنقلنا إلى طاعتك للبر المُعلن من فوق لكل مَنْ يقبل.
أحنيتَ رأسك يا ملكنا في ذروة الاتضاع والإخلاء؛ فظهر كمال برك وانفتحت السماء وقت معموديتك ونزل الروح مثل حمامة مع صوت السرور يعلن كرامتك أيها الابن الوحيد الحبيب الذﻱ سُرّ به أبوه… والروح الذﻱ نزل عليك إنما كان نزوله علينا نحن؛ بسبب لبسك جسدنا… إنه لم يصِرْ من أجل ترقيتك أيها اللوغوس؛ بل من أجل تقديسنا من جديد وشركتنا في مسحتك.
إنفتاح سمواتك هذا إنما يحدث أيضًا عند معموديتنا؛ عندما تدعونا إلى وطنك السماوﻱ وترفعنا من التراب والمزبلة لترقّينا وتُعدّ لنا المكان. إنها معاملاتك الروحية العجيبة التي ننساها ونُهملها لأننا بطيئو الفهم وأغبياء القلب؛ وقد أعمتنا المحسوسات وعشوائيات الفكر والتعليم؛ فعجزنا عن إدراك أسرارك الحلوة… لكن ما أعلنته مرة واحدة للجميع نقبله بالإيمان؛ وروحك القدوس يأتينا ليقدس ويكمل ويُظهر أسرارك؛ وهو الفاعل فيها ليُحييها قدسًا للقديسين؛ وإن كانت غير مرئية من المرئيين؛ وأسرارًا معقولة لك يا ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح.
دُفنتَ في الماء ولبستَهُ كثوب؛ وسطع نور الحياة فيها عندما نزلت إلى نهر الأردن لتؤسس كنيستك على الأنهار؛ وأنت نهرها الأصلي؛ وأنت رب هيكل عهدها الجديد. فإنشقاق السماء رفع الحجاب الأبدﻱ والكوني بالماء والروح والكلمة؛ عندما أعلنت لنا الوطن السماوﻱ وأعطيتنا تصريح المواطنة الأبدية في منازل أبيك.
وقد دشنت أول معمودية على الأرض؛ كرَحِمٍ للكنيسة وجُرن للثالوث ومعمل للخلاص وبطن سماوية تنسل أبناء الله الجُدُد؛ لا لزرع يفنىَ؛ بل لحياة دائمة لا تزول لكل مَنْ يؤمن.
وفي معموديتك تسكب علينا فردوسك بأيادٍ سخية مِفضالة؛ وتُخمد عنا نار الجحيم التي لا تُطفأ؛ مثلما حدث عندما صُلبتَ على عود الصليب ودُفنت؛ فإنشق حجاب الهيكل؛ ورفعت الحاجز وصنعت المصالحة. فمعموديتك فتحت السماء المُغلقة وأبدلت هبوطنا إلى أسفل ليكون صعودًا إلى فوق بصولجان البنوة والمصالحة.
ظهر الروح بهيئة حمامة؛ تلك التي كانت ترفُّ في التكوين على وجه الغمر. وهي أيضًا التي حملت قديمًا بشارة رفع الغضب الإلهي وبدأ الرضَى وانتهاء الطوفان… نزل الروح عليك على هيئة مجسَّمة كحمامة؛ فروحك بسيطة سَلامية مالئة مُجدِّدة مُحرِّرة؛ وهي نبع العطايا والمواهب؛ وكل من يتصل بروحك يتقابل معك ومع أبيك الصالح؛ وكل من يشترك في مجد أبيك. فإن هذا المجد في الواقع ممنوح له منك بروحك القدوس. روحك يُعلن النجاة ويحمل غصن الزيتون للعالم. روحك ينجي من الهلاك ومن خراب الأشرار؛ وهو يرثي لضعفنا عندما نصرخ نحوك يا أبا الآب. روحك يملأ الكل؛ كنز الصالحات ومُعطي الحياة الذﻱ يحمل لنا التبنّي كخليقة جديدة من بعد طوفان العالم المُهلِك.
في عيدك ظهرتَ أيها الابن الوحيد لأبيك مع روحك القدوس؛ وعندما ظهرت على الأرض لم تفترق عن حضن أبيك؛ وقد استقرّتْ الشهادة بصدق في صوت سرور الآب الذﻱ أرعد على المياة الكثيرة؛ وبظهور حمامة الروح القدس عندما شهد لك الروح الذﻱ من نفس الطبيعة الواحدة معك؛ أنت الحامل كل الأشياء بجوهر كلمتك، فالآب الفائض الشفاء أبو الخلود أرسلك لكي تكسونا برداء البر والبهاء؛ وتصير لنا بداية وطريقًا وبابًا للخيرات الأبدية؛ مجدِّدًا كل شيء على جَوْدته الأصلية.
في عيدك نُساير الحمامة التي تطير نحوك يا حمل الله الذﻱ يرفع خطية العالم كله؛ فندخل في حُب أبيك؛ الحب الذﻱ تكنّه (الحمامة) (للابن؛ ومع الابن سنُحبّ الآب ؛ ومع الابن الحمل سنحبّ الروح القدس (الحمامة) في شركة الثالوث، منادين معًا (الروح والعروس يقولان: تعالَ) قائلين للحمل مع كنيسة الله العروس بروح السجود (أمين تعالَ أيها الرب يسوع).
الوسوم :مَعْمُودِيَّتُك يا سَيِّدَنا بقلم القمص أثناسيوس چورچ