في هدْأَةِ ذاك المساء، قادَني خيالي إلى حيث يَنْسى الناس هموم الناس ومآسيهم، إلى أحضان الطبيعة التي بدأ المساء يمحو معالمَها فتقاربت حتى كاد ما هو للسمع يلامس البصر وما هو للذوق يداعب بالعطر الأنوف. هناك حيث تلاقى حفيفُ الورق بعبق الحَبَق، وعانق غنجُ القلم أوتار النغم، وهناك أيضًا هتف البخور مردّدًا تسابيح هي للسماء أقرب منها للأرض، وهناك قال العاصي سأجري صعودًا وآخذ من هذا الجبل لقمة الكرامة إلى كلِّ أرض أرويها.
هناك تراءت لي بين العتمة والنور قامةٌ شامخةٌ لم تكن العصا التي تحملها للتوكؤ بل هي للهداية والرعاية وتقويم السُّبُل. سألته، خائف المظهر مرتاح القلب، لأني انجذبت إلى هذا المترائي كالعاشق إلى حبيبة، سألته مَن أنت؟ فبادرني بالسؤال عينه وأنتَ من أنت؟ فقلت أنا ماروني من هذا الجبل، من هذا الوطن من هذه الأرض التي، وهنا قاطعني وقال: أنت يا بني بل أنتم يا أبنائي، أعطيتم وطنًا ليس كسائر الأوطان، وطنًا ليس من تراب وجبالٍ وصخور وأنهار وأشجار وبحارٍ ووهادٍ وعباد. أَوَتعلَم أنني حين رأيت هذا الجبل منذ ألف وثلاثماية سنة قلت: هذا الجبل مساحة حريَّة، أجل، إنَّه كُوِّنَ للحريَّة، وأنتم مسؤولون عن هذه الحرِّيَّة، علِّموها لأولادِكم لأجيالِكم ليس فقط في وطنِكم بل لهذا الشَّرْق الذي لم يعرفُ بعد، وقد لا يعرف كيف تُعاش الحرِّيَّة، ولذاك الغرب الذي جعلها تفلُّتًا من كلّ القِيَم والفضائل فغدَتْ إلى الفَوْضى أقرب. إجعلوها عقيدتكم الاجتماعيَّة وطيروا بها إلى كل أصقاع الأرض.
وطنكم هذا وطن القداسة، فلا تجعلوه مغارةً للصوص، واعلموا أنَّ القداسةَ ليستْ في التزمُّت والتَّخلُّف والتمسُّك بقُشور الدين والابتعاد عن الإيمان. أنقلوا مفهوم القداسة إلى الذين جعلوا الله على مقاسَهم البشري عِوَضًا من أنْ يرتقوا على طريق الكمال تشبُّهًا بالله. إلى أولئك الذين خَلَقوا ألف إله وإله وأغمضوا عيون عقولهم فخنقوا المعرفةَ ودفنوا الحكمةَ ورفضوا كلَّ اختلاف، فعاشت العداوةُ في قلوبهم وماتَ الحبُّ والإئتلاف.
أنقلوا هذه القداسةَ إلى الغرب القاتِم الذي أَماتَ الله وظنَّ أنَّه يبني العالم وينظِّمه بقوَّة العقل وحدَه، فغيَّبوا الله وشَرَدوا بعُقولِهِم نحو مهاوي الدَّمار، فحلَّلوا المحرَّمات وشرَّعوا كلَّ ما يخالفُ الطَّبيعة. فهدموا العالمَ حين ظنُّوا أنَّهم يبنونه.
وطنُكم هذا هو وطنُ الدِّيموقراطيَّة والمَشورةِ الصَّالحة والعقلانيَّة المُشْبَعة بالفضائِل السماويَّة، وأَنتم مسؤولون عن الحفاظِ على هذه الدِّيمقراطيَّة، لا لكَوْنها نظامًا سياسيًّا بل لأَنَّها تَنْمو بين الشُّعوب كلَّما نَمَتْ في عقولِهم كرامتُهم وأَدركوا أَنَّ قيمَتَهم في حالِهم وليْستْ في مالِهِم… هنا قاطَعْتُه مسْتَوْضِحًا، ولكنَّه أدار ظهْرَه ومشى تاركًا اسْمَه في أذني يهدر كالبركان: أَنا يوحنَّا مارون وهذه مسؤُوليَّتكم فلا تخنقوها بخلافاتكم وأحقادكم.