عبر اختيارها النصوص الإنجيلية للآحاد الأربعة السابقة لبدء الصوم، بأن الغاية منه إنما هي اكتساب الفضائل المسيحية، وأهمها التواضع والتوبة والمحبة والغفران.
الأحد المقبل هو أحد المرفع، وقد اختارت الكنيسة الأرثوذكسية “الغفران” اسماً له. فعشيّة الصوم، المؤمنون مدعوون إلى الإصغاء إلى الرب القائل والعمل بمقتضى كلامه: “إنْ غفرتم للناس زلاّتهم يغفر لكم أبوكم السماويّ (الله) أيضاً، وإنْ لم تغفروا للناس زلاّتهم فأبوكم أيضاً لا يغفر لكم زلاّتكم” (متّى 6، 14-15). في تفسيره هذه الآيات، ينبّه القدّيس كبريانوس أسقف قرطاجة (+258) المؤمنين إلى ضرورة التقيّد بالشرط الملازم لغفران الله لهم، وهو غفران المؤمنين للمسيئين إليهم. فيقول: “سيغفر لإثمنا كما نغفر لمَن يسيء إلينا، عالمين أننا لا نستطيع الحصول على غفران خطايانا ما لم نغفر، بالمقابل، للذين يسيئون إلينا”. لا بدّ، قبل طلب الغفران، من أن يقرّ المرء بأنّه خاطئ، وأنه في حاجة إلى رحمة الله. وفي هذا السياق يقول القديس يوحنا اللاهوتي: “إذا زعمنا أننا بلا خطيئة خدعنا أنفسنا ولم نكن على الحق. وإذا اعترفنا بخطايانا فإنه أمين عادل يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كلّ إثم” (الرسالة الأولى 1، 8-9). ويعلّق كبريانوس على هذا القول بالتأكيد أن المؤمنين يجب أن تبقى عقولهم مدركة تلك الخطايا، خشية أن يصبح المرء راضياً عن نفسه، فيكيل لنفسه “الإطراء الذاتي”. يؤكّد التراث الكنسي عدم جدوى الصلاة الربّانيّة (أبانا الذي في السموات…) إذا لم يكن المصلّي ناوياً الغفران لمَن أساء إليه، حتى أنّ بعض القدّيسين وصلوا إلى حدّ القول بأن الأجدر ألاّ يصلّي المرء الصلاة الربّانية إذا ضمر في نفسه عدم الغفران للآخرين. فكيف يقول المصلّي: “اترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمَن لنا عليه”، ثم ينتهك تلك القاعدة حين لا يغفر للطالبين منه الغفران؟ عليه أن يغفر إذا أراد أن يصفح له الله عما اقترفه من خطايا وآثام. “ما من شيء يجعلنا نشبه الله سوى استعدادنا لمسامحة الأشرار والأثمة”، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم (+407)، ذلك أنّ لله وحده أن يغفر الخطايا. فإذا كانت تعاليم المسيح، لدى أتباعه، هي الطريق المثلى كي يصبح الإنسان بالفعل على صورة الله ومثاله، فعليه أن يفعل أفعال الله. وليس ثمة ما يجعل المرء يشبه الله أكثر من أن يغفر لمَن أساء إليه. ثمّ يحذّر الذهبي الفم من عواقب عدم الغفران، فيقول: “ما أشدّ العقاب الذي يستحقّه الذين، بعد كلّ هذا، لا يغفرون، بل يتضرّعون إلى الله طلباً للثأر من أعدائهم”. يجمع التراث الكنسي على القول إن الهدف من تأنّس المسيح هو أن يصبح الإنسان إلهًا بالنعمة بعدما صار الإله إنساناً. فما على الإنسان إلاّ أن يقتدي بالمسيح الذي غفر لجلاّديه وصالبيه ومعيّريه والساخرين منه. الصوم المقبل فرصة نغتنمها، فنتمرّس على التواضع والتوبة والمحبة والغفران. وهذه الأركان الأربعة لا يستقيم أحدها من دون الآخر، وإن سقط أحدها سقطت كلّها.
النهار