«مَن هو المثقف؟ هو عنوان كتاب جديد للدكتور نزار دندش، وقّعه في معرض الكتاب العربي قبل اسابيع (دار غوايات). عنوان الكتاب جاء بصيغة سؤال، لكن العنوان هو اجتزاء للكتاب الذي يطرح اشكاليةً أكبر بكثير من عنوانه. إنه يحمل قضية تؤرق الكاتب منذ سنوات وهي التخلّف الذي يعيشه عالمنا العربي: لماذا تخلّف العرب؟ فجاء هذا الكتاب بمثابة نداء الى المثقفين العرب ليقودوا ثورة حقيقية في مجتمعاتهم. وتعبير الثورة ليس مبالغاً فيه، لأنه المحرّك الرئيسي عند المؤلف.
موضوع تخلّف العالم العربي وكيفية اللحاق بالحضارة العالمية قضية يحملها نزار دندش ويناضل من أجلها، من دون أن يكتفي بالتنظير فيها او الكتابة عنها. الهمّ الذي يقلقه ولا ينفك يفكّر فيه هو قضية مجتمعه المتخلّف الغارق في التخلّف والتبعيات والأساطير والتقاليد الباهتة فيما المجتمعات الاخرى تمضي قدماًَ الى الامام. لذلك هو لا يتوانى عن البحث عن اسباب هذا التخلف ساعياً للتصدي لها.
المثقفون ضمان الأمة
إنّ اختيار المثقفين هدفاً ميدانياً للتفاعل معهم يعود الى اعتبار انهم يحملون بذور التغيير و»لأنهم ضمانة أية أمّة في استمرار حيويتها، هم درعها الواقية من الفساد والانحلال». ويحدد المؤلف صفات هذا المثقف بأنه «الذي يمتلك الضمير الحيّ وهو الذي يتميّز بالموضوعية والحيوية والاندفاع، وحبّ الآخرين، وبالاستعداد للدفاع عن حقوق الفقراء، ولنصرة العدالة والوقوف في وجه الظلم والتمييز».
في الماضي كان «المثقف ذلك الشخص الذي يشتهر بثقافته الواسعة نسبة لثقافة الآخرين». أما مثقف اليوم «فليس مطالباً بأن يبتكر نظرية جديدة، وليس مفكّراً، ولو انّ بعض المثقفين مفكرون، بل يكفيه أن يكون مزوّداً بالمعلومات الكافية لكي تكون له رؤيته الخاصة (…) وأن يكون غيوراً على المصلحة العامة وأن يتحلّى بالأخلاق الحميدة، ويمتلك ما يكفي من الحماسة لكي يكون متطوّعاً للعمل من أجل تحقيق الاهداف التي يحملها».
مثقفو المصلحة الخاصة
وكم باتت مجتمعاتنا بحاجة اليوم الى العودة الى مفهوم المصلحة العامة والى الاخلاق، حين نرى كيف اختلط العام بالخاص وكيف باتت الدولة مطيّة للمصالح الشخصية. لذلك ينتقد المؤلف «مثقفي المصلحة الشخصية»، و»مثقفي الحكام والانظمة»، معبّراً عن الحاجة الى مثقفين يحملون هم المصلحة العامة وهم مجتمعهم.
الكتاب نداء ايضاً الى المثقفين في الدول العربية الذين يحمّلهم مسؤولية «أن يفكروا بأزماتنا وعلى رأسها أزمة الثقافة وأزمة الحرية والديمقراطية والعدالة، وأزمة التخلّف الحضاري والتبعية العمياء» على كل الصعد. لكنه، وكأنه يتفهّم في الوقت نفسه معاناة المثقف العربي الذي لا يجرؤ على التعبير عمّا يفكر به في انظمة تقمع حرية التعبير وتقيّده.
كما يتناول المؤلف مشكلة اخرى تواجه المثقف العربي: هو يحتاج الى الفكر الغربي والتكنولوجيا الغربية، لكن عليه في الوقت نفسه أن يدين الغرب وأن ينتقده. ويطرح هنا سؤالاً جوهرياً عن العقائد السائدة في العالم العربي بما فيها الثقافة العربية المؤدلجة التي تقف في وجه التقدم مقارناً مع ثقافات بلدان جنوب شرق آسيا الصناعي الآسيوية التي ساهمت في تقدّم بلدان جنوب شرق آسيا الصناعي. فيسأل: لماذا هناك يتقدمون فيما نحن نتخلّف؟
الحلول والأجوبة
كتاب نزار دندش هذا، هو تتمّة لكتاب سابق حمل عنوان: «نحو ثورة في ثقافتنا»، أصدره قبل اربع سنوات وحمل سؤالاً محورياً: «كيف حدث الانهيار الحضاري، ومن ثمّ التخلّف الثقافي والمعرفي» في عالمنا العربي؟
في ذلك الكتاب استعرض اسباب الانهيار، وجاء اليوم في حديثه الى المثقف يحثّه للعب دوره في أن يحمل الحلول والأجوبة. وهو يعود دوماً الى استنتاج بديهي: «لا خروج لنا من مستنقع التخلّف إلّا على سفينة العلم، وما دامت مشاريعنا النهضوية تستبعد دور العلم والعلماء فلسوف نبقى على تخلّفنا. وعبثاً نقنع أنفسنا بأننا نشجّع العلم، ولئن أعلنّا ذلك فلأسباب دعائية فقط».
تبنّي العلم حلّاً لتخلّف مجتمعاتنا نفهم دافعه في السيرة الذاتية للمؤلف، فهو قادم من علم الفيزياء، وباحث في علوم النسبية وعلوم الفضاء، استاذ في الجامعة اللبنانية، لذلك هو مدرك لموقع العلم في تقدم المجتمعات ورقيّها، ويتبنى العلم نهجاً في اتّخاذ القرارات والإضاءة على الطريق التي تؤدي الى التقدّم.
يحمل قضية مجتمعه
في كتاباته الكثيرة التي فاقت الخمسين كتاباً في ميادين مختلفة كالبيئة والتلوّث الغذائي والكهرومغناطيسي، يحمل نزار دندش قضية مجتمعه، كما يحملها في دواوينه الشعرية التي تنسكب جمالاً من دون عقد او «تابوات»، وفي رواياته التي تطرح قضايا مجتمعية، وفي انشطة الجمعيات الثقافية والبيئية والاكاديمية التي يناضل فيها منذ عقود، وفي نضاله من اجل الشباب ومن اجل حماية البيئة في لبنان.
وكتابه هذا ما هو إلّا عربة في هذا القطار النقدي الذي وضعه على السكة، داعياً الجميع الى ركوبه، علّه يصل بالإنسان العربي الى مرفأ التقدم. والدعوة الى ركوب القطار اليوم تتوجّه الى المثقفين في بلادنا لأنهم دعاة التغيير والتقدم.
إنها صرخة تعبّر عمّا يتخبّط به مجتمعنا العربي من صعوبات تقود الكثيرين الى اليأس من حالنا المزرية. لكنها صرخة نابعة من تمخّض فكري لوعي هذا الواقع ما يؤشر الى منحى للمعالجة على أمل التغيير المنشود.
د.جورج صدقة
الجمهورية