عُقد مؤتمر صحفي لتقديم الإرشاد الرسولي الجديد للبابا فرنسي “Gaudete et exultate”؛ “إفرحوا وابتهجوا” حول الدعوة إلى القداسة في العالم المعاصر، وننشر فيما يلي ملخَّصًا صغيرًا له:
نُصبح قديسين بعيشنا للتطويبات، الدرب الأساسيّة لأنّها “بعكس التيار” بالنسبة لاتجاه العالم. نصبح قديسين جميعًا لأن الكنيسة قد علّمت على الدوام أنّها دعوة عامة وممكنة لكل شخص وقد أظهر ذلك العديد من القديسين الذين يعيشون بقربنا. إن حياة القداسة مرتبطة بشكل وثيق بحياة الرحمة “مفتاح السماء”. وبالتالي فالقديس هو الذي يعرف كيف يتأثَّر ويتحرّك لمساعدة البؤساء ويشفي البؤس، والقادر على أن يعيش حياته بفرح وروح مرحة.
يختار البابا فرنسيس روح الفرح ليفتتح به إرشاده الرسولي الجديد والذي يحمل عنوان “Gaudete et exultate”؛ “إفرحوا وابتهجوا” ويكرّر من خلاله الكلمات التي يوجّهها يسوع للذين يُضطهدون ويُشتمون من أجله. ويؤكِّد البابا في بدايته أنّ هذه الوثيقة لا تشكّل أطروحة حول القداسة مع العديد من التعريفات والتمايزات التي بإمكانها أن تُغني هذا الموضوع المهمّ، أو مع تحاليل حول أدوات القداسة. بل هدفه هو أن يُرجِّع مرّة أخرى صدى صوت الدعوة إلى القداسة من خلال تجسيدها في الإطار المعاصر، مع مخاطرها وتحدياتها وفرصها.
قبل أن يُظهر ماذا ينبغي علينا أن نفعل لنصبح قديسين يتوقّف الأب الأقدس في الفصل الأوّل عند الدعوة إلى القداسة ويؤكِّد أن هناك درب كمال لكلِّ فرد منا وبأنّه لا يجب علينا أن نفقد الشجاعة عندما نتأمل أمثلة القداسة التي تبدو لنا بعيدة المنال أو أن نُنهك أنفسنا في السعي للتَّشبُه بشيء لم يُعدّ لنا. ويؤكِّد البابا أنَّ القدّيسين الذين قد بلغوا إلى حضرة الله يحافظون على رابط محبة وشركة معنا، وهم يحيطون بنا ويقودوننا ويرشدوننا وبالتالي فالقداسة التي يدعونا الرب إليها ستنمو من خلال تصرُّفات صغيرة، وهذه في أغلب المرات هي القداسة “التي تقيم بقربنا”، قداسة الذين يعيشون بقربنا وهم انعكاس لحضور الله، أو إن أردنا استعمال تعبير آخر، “الطبقة المتوسِّطة للقداسة”.
في الفصل الثاني يتحدّث البابا فرنسيس عما يحددهما بتحريفَين للقداسة بإمكانهما أن يحوِّلاننا عن المسيرة: الغنّوصيّة والبيلاجيّة. إنهما هرطقتان ولدتا في القرون المسيحيّة الأولى ولكنّهما لا تزالان تشكِّلان حداثة مقلقة. فاليوم أيضًا، تسمح قلوب العديد من المسيحيين، ربما بدون أن تُدرك، بأن يخلبها هذان الاقتراحان المضلِّلان. إذ تتجلّى فيهما محايثة تتمحور حول الإنسان وتختبئ خلف حقيقة كاثوليكيّة. نرى هذين الشكلَين من الأمان العقائدي أو النظامي اللذين يُفضيان إلى “نخبويّة نرجسيّة وسلطويّة حيث وبدلاً من البشارة يتمُّ تحليل وتصنيف الآخرين، وبدلاً من تسهيل الحصول على النعمة يتمُّ استهلاك الطاقات في السيطرة. وفي الحالتين لا يهمّ فعلاً يسوع المسيح ولا الآخرين”. فالغنوصيّون يجرّدون السرَّ من الجسد، يفضّلون كما كان أحد المفكّرين يؤكِّد “إلهًا بدون مسيح ومسيحًا بدون كنيسة وكنيسة بدون شعب”. أما الذين ينسجمون مع الذهنيّة البيلاجيّة أو شبه البيلاجيّة، فبالرغم من حديثهم عن نعمة الله من خلال خطابات معسولة: “في النهاية، لا يثقون إلا بقواهم الشخصيّة ويشعرون أنّهم متفوِّقين على غيرهم لأنّهم يحافظون على قوانين معيّنة أو لأنّهم أمناء بشكل حازم لأسلوب كاثوليكي معيَّن”. ويتميّز هؤلاء الأشخاص بحسب البابا بتصرّفات عديدة متفاوتة فيما بينها ظاهريًّا: الهوس بالقانون والسحر لإظهار اكتسابات اجتماعيّة وسياسيّة والعناية المُتفاخرة بالليتورجيّة والعقيدة وامتيازات الكنيسة والغرور المتعلِّق بإدارة الأمور العمليّة والانجذاب إلى ديناميكيات مساعدة للذات والتحقيق المتعلِّق بالمرجعيّة الذاتيّة. ويذكّر الأب الأقدس في هذا السياق بالتعليم المسيحي الذي يذكِّرنا أنَّ عطيّة النعمة “تتخطى قدرات الذكاء وقوّة إرادة الإنسان”، وأننا بدون أن نُدرك، ولأننا نعتقد أن كلَّ شيء يتعلَّق بالمجهود البشريِّ الذي توجِّهه قوانين وهيكليات كنسيّة، نُعقِّد الإنجيل ونُصبح عبيدًا لمُخطّط يترك بعض الفسحات للنعمة لتعمل.
أما الفصل الثالث فيتمحور حول التطويبات التي يضعها البابا فرنسيس كدرب للقداسة إذ يؤكِّد أن يسوع قد شرح ببساطة معنى أن نكون قدّيسين وذلك عندما ترك لنا التطويبات؛ وبالتالي إن سأل أحد منا نفسه: “ماذا عليَّ أن أفعل لأكون مسيحيًّا صالحًا؟” يأتي الجواب بسيطًا: من الضروري أن يعيش كلٌّ بحسب أسلوبه ما يقوله يسوع في عظة التطويبات، لأنَّ فيها يُرسم وجه المعلِّم الذي دُعينا لنعكسه في حياتنا اليوميّة. وبالتالي يتوقّف البابا فرنسيس في الفصل الثالث عند كل واحدة من هذه التطويبات، فينطلق من فقر القلب الذي يعني أيضًا تقشفًا في الحياة إلى التصرّف بوداعة في عالم مليء بالنزاعات. ومن الشجاعة للسماح للألم بأن يخترقنا ونبكي في قلوبنا إزاء عالم يتجاهل الأمور وينظر إلى الجهة المعاكسة عندما يواجه مشاكل مرض ما أو حزن في العائلة أو حوله. من السعي بجوع وعطش إلى البر فيما يُظهر لنا الواقع كم هو سهل الدخول في حلقة الفساد والانتماء إلى هذه السياسة اليوميّة للـ “أُعطي لكي يُعطوني” وحيث كلُّ شيء هو تجارة. وحيث يتألّم الأشخاص بسبب الظلم ويقفون عاجزين إزاء الذين يتبادلون الأدوار لكي يتقاسموا كعكة الحياة. من النظر والتصرّف برحمة أي أن نعطي ونساعد ونخدم الآخرين وأيضًا أن نسامح ونتفهَّم؛ وأن نحافظ على قلبنا نقيًّا من كلِّ ما يُلطِّخ المحبة تجاه الله والقريب. وختامًا أن نزرع السلام والصداقة الاجتماعيّة، فنكون صانعي سلام لأنَّ بناء السلام هو فنٌّ يتطلّب هدوءًا وإبداعًا وحساسيّة ومهارة. مدركين أنّه ليس من السهل أن نبني هذا السلام الإنجيلي الذي لا يستثني أحدًا بل يدمج أيضًا حتى الأشخاص الغريبين بعض الشيء والمجانين والأشخاص ذوي الطباع الصعبة والمعقّدة والذين يحتاجون للاهتمام والمختلفين عنا والذين آذتهم الحياة والذين لديهم اهتمامات أخرى. إنّه أمر صعب ويتطلّب انفتاحًا كبيرًا للعقل والقلب. ويؤكِّد البابا في هذا السياق أن يسوع نفسه يشدد على أن هذا الطريق يسير عكس التيار حتى أنه يجعلنا أشخاصا يضعون بحياتهم المجتمع موضع تساؤل، أشخاصا مثيرين للإزعاج. إذ لا يمكن أن ننتظر، أن يكون كل ما حولنا في صالحنا من أجل عيش الإنجيل.
يتوقّف البابا فرنسيس بشكل خاص عند إحدى هذه التطويبات التي تشكّل سلوكًا للحياة ويقول في الفصل الخامس والعشرين من إنجيل القديس متى يعود يسوع ليتوقف عند إحدى التطويبات التي تعلن الطوبى للرحماء. وإن بحَثنا عن هذه القداسة المُرضية لله فسنجد في هذا النص تحديدًا قاعدة سلوك سنحاسَب على أساسها: “لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِليّ”؛ ويؤكِّد الحبر الأعظم أن نكون قديسين لا يعني بالتالي تلميع الأعين في وجد مفترَض. بل وكما قال القديس يوحنا بولس الثاني “إذا كنّا حقاً قد تأمّلنا في وجه المسيح، يجب أن نتعلّم أن نكتشفه بخاصة في وجوه الذين أراد هو أن يتحّد بهم”. لكن مع الأسف تدفعنا الإيديولوجيات أحيانا إلى خطأين ضارين. من جهة خطأ المسيحيين الذين يفصلون متطلبات الإنجيل هذه عن علاقتهم الشخصية مع الرب، عن الاتحاد الداخلي معه، عن النعمة. هكذا تتحول المسيحية إلى مجرد منظمة غير حكومية نُزعت عنها تلك الروحانية المنيرة التي عاشها وعبَّر عنها جيدا القديس فرنسيس الأسيزي، القديس منصور دي بول، القديسة تيريزا دي كالكوتا وغيرهم كثيرون. فلدى هؤلاء القديسين العظام لم تقلِّل الصلاة ولا محبة الله ولا قراءة الإنجيل من شغف وفعالية تكريس أنفسهم للقريب، بل على العكس. ويتابع الأب الأقدس أنّه ضار وإيديولوجي هو أيضا خطأ من يعيشون في عدم ثقة في الالتزام الاجتماعي للآخرين معتبرين إياه شيئا سطحيا، دنيويا، معلمنا، محايثا، شيوعيا، شعبويا. أو يجعلونه نسبيا وكأن هناك أشياء أخرى أكثر أهمية أو كأنه يرتبط بأخلاقيات معينة أو منطق يدافعون عنه. ويشدّد البابا في هذا السياق على أن الدفاع عن البريء يجب أن يكون واضحا وحازما وشغوفا، لأن ما على المحك هنا هو كرامة الحياة البشرية، المقدسة دائما، وهو أمر تستدعيه المحبة إزاء كل شخص بغض النظر عن نموه.
ويتابع الأب الأقدس مشيرًا إلى أن مَن يريد أن يمجد الله بحياته حقًا، مَن يتطلع بالفعل إلى القداسة كي تمجد حياته القدوس، هو مدعو إلى أن يعذب نفسه ويبذلها، ويتعب محاولا عيش أعمال الرحمة. وهذا ما فهمته بشكل جيد جدا القديسة تيريزا دي كالكوتا: “نعم، ضعفي البشري كبير، وبؤسي البشري أيضًا. […] إلا أن الله يتنازل ويستخدمنا، يستخدمني ويستخدمك، كي نكون محبته وشفقته في العالم، رغم خطايانا، رغم بؤسنا وعيوبنا. الله يعتمد علينا ليحب العالم ويكشف له كم هو يحبه. إن بالغنا في الاهتمام بأنفسنا فلن يتبقى لنا وقت للآخرين”. ويضيف البابا أنّه سيكون من الصعب أن نلتزم ونكرس الطاقة لمساعدة من هو في أوضاع أسوأ إن لم نُنمِ نوعا من التقشف، إن لم نكافح هذه الحمّى التي يفرضها علينا المجتمع الاستهلاكي كي يبيعنا الأشياء، ما يحولنا في النهاية إلى فقراء غير راضين يريدون امتلاك كل شيء وتجربة كل شيء. يمكن أيضا لاستهلاك إعلام سطحي وأشكال الاتصال السريعة والافتراضية أن يكون عامل تشويش للذهن يسلبنا وقتنا بالكامل ويُبعدنا عن جسد الإخوة المتألم. ووسط هذه الهوة الحالية يتردد صوت الإنجيل مجدَّدا ليقدم لنا حياة مختلفة، أكثر صحة وأكثر سعادة.
أما في الفصل الرابع من الإرشاد الرسولي “إفرحوا وابتهجوا” فيتحدّث الحبر الأعظم عن الميزات الضروريّة لفهم أسلوب حياة القداسة وهي: التحمُّل والصبر والوداعة، الفرح وروح المرح الشجاعة والحماس، إذ أنَّ درب القداسة هي مسيرة نقوم بها بشكل جماعي وفي صلاة مستمرّة ودائمة تبلغ إلى التأمّل ولكن لا كهروب من العالم. ويتابع بما أن الحياة المسيحيّة هي جهاد دائم ضدّ ذهنيّة العالم التي تصعقنا وتجعلنا بؤساء يختتم البابا فرنسيس الإرشاد الرسولي في الفصل الخامس داعيًا المؤمنين إلى الكفاح ضدّ الشرير الذي ليس أسطورة أو خرافة بل كائن يعذِّبنا ويمكننا مواجهة فخاخه وشراكه بواسطة السهر وأسلحة الصلاة والأسرار وحياة تملؤها أعمال المحبّة. مهمٌّ أيضًا هو التمييز لاسيما في مرحلة تقدّم إمكانيات هائلة من العمل والتلهّي التي لا تترك فسحات ليتردد فيها صدى صوت الله. هذا ويطلب البابا اهتمامًا خاصًا بالشباب الذين يتعرَّضون لتقلبات متواصلة في عوالم افتراضيّة بعيدة عن الواقع. فنحن لا نقوم بالتمييز لكي نكتشف ما بإمكاننا اكتسابه من هذه الحياة وإنما لنعرف كيف يمكننا أن نتمِّم بأفضل شكل ممكن الرسالة التي أوكِلت إلينا في معموديّتنا.
إذاعة الفاتيكان