يقال أن نابليون بونابرت عندما دخل مصر، كان يجول في الاسكندرية ويسأل عن الأبنية فيها، فيشرحون له: هذه كنيسة القديس مرقص وهذه كنيسة القديس جرجس وهذه كنيسة القديس يوحنا، وكانت كنائس ضخمة، فقال إن مسيحيي الشرق سيصبحون مثل خيال المآته (فزاعة).
اليوم أتذكر هذه الكلمات… أمر على البيوت الخاوية من ساكنيها، الواقفة كشاهد على عصر الخوف… أصبحت أتفاجأ من الأشخاص الذين يتركون بلدانهم ليهاجروا…
كم تمنيت أن أجلس على أرصفة تسامرنا عليها ونحن أطفال، وهي اليوم تصبح آخر ما ندوسه في أرض أجدادنا قبل أن تقلّنا السيارات الى خارج حدود أحلامنا. كم رغبت في البكاء على أطلال صورنا القديمة، أتذكر شقاواتنا، وأساتذتنا، ومقاعدنا، ورفاق مدرستنا. أحاول الصراخ أمام الحوانيت المغلقة، والتي كنت أمر على أصحابها من أصدقائي لنشرب القهوة والشاي. أكتشف كل يوم أن صديقاً قد هاجر وأسمع كل يوم عن صديق تقدم بطلب الهجرة واللجوء.
حنفيات الماء في مدرستي، الحيطان التي شخبطنا عليها بالطباشير، الأشجار التي تسلقناها، هل كلها تركوها وغادروا؟ أنا أعلم أننا منذ عشرات السنوات، ونحن نحاول إرسال أولادنا ليدرسوا أو يعملوا في المهجر، ولكننا نعلم كلنا، أننا كنا نقول لهم بعيوننا كي لا يعودوا.
أعرف أن كل واحد له أسبابه، وأفهم أن الأسباب الاقتصادية أصبحت آخر الأسباب، والخوف هو أولها فهنالك إحساسٌ بالخوف من المستقبل، لأن المجازر التي وقعت خلال السنوات الماضية تتراءى أمامهم، وكأن المسلمين يستعدون لشن حملة اضطهاد على المسيحيين في أي لحظة، وهو ما تروج له الأقنية الفضائية التي دخانها يعود الى نار مستعرة.
أقف أمام عائلتي متلبكاً، فلا المستقبل أعرفه، ولا أزيل عنهم الخوف، ولا أستطيع أن أرد على تساؤلاتهم.
المهانة والاضطهاد ليسوا هم الذين يسببون لوحدهم حالة الهجرة.
عاشوا الخوف والرعب على عائلاتهم وبيوتهم، وتناقلوا صور الرؤوس المقطوعة وحرق الكنائس وهدمها وسرقتها. وقفوا أذلاء أمام أبواب السفارات والمنظمات الدولية، وقدموا طلبات اللجوء والهجرة فقط ليهربوا من واقع لم يحتملوه.
بلادي… درسنا في مدارسها وجامعاتها وعشقنا فيها وكبرت أحلامنا فيها. أغص كلما تذكرت الرفاق الذين هاجروا، وأعذرهم. إن أمي إذا مرضت فأنا لا أتركها، ووطني إذا تعرض للمحن فلن أبيعه.
قال البطريرك الماروني السابق مار نصر الله صفير بأن “بعض المسيحيين يشعرون بأنهم مهمشون ولا رغبة في وجودهم”، وقد يكون هذا صحيحاً ولكن حتى إن نفرتني أمي فأنا سابقى وفياً لها.
سُئل أحد الشباب الذي أصيب والده بمرض أفقده معرفة الأشخاص، إن كان يعرف أنه ولده، فأجاب الشاب قائلاً: “إنه لا يعرفتي ولكني أعرف أنه والدي”.
وبكل الإصرار، أنا لا ابيع وطني، سأبقى لأصبح ناطوراً لمنازل المسيحيين الفارغة.
باسل قس نصرالله/ عن أبونا