استاء البابا فرنسيس عندما علم بالامر. انتشر الخبر. انتقال احد “امراء” الكنيسة، الامين السر السابق للفاتيكان الكاردينال تارشيسيو بيرتوني، للعيش قريبا في قصر فخم على مقربة من مقره الموقت المتواضع (“بيت مارتا”)، في شقة مساحتها 700 م2، اي 10 اضعاف غرفته البسيطة (70 م2)، لا يتوافق اطلاقا مع “عيش الفقر” الذي يريده للكنيسة الكاثوليكية ورجالاتها. بعد اكثر من عام على انتخابه، حقق فرنسيس شعبية جنونية بلغت اقاصي الارض، وفي الوقت عينه حصد “عداوات” بين اتراب اساقفة وكهنة مقاومين، منزعجين جداً.
“جنرال يسوعي في القيادة، لكنه فرنسيسكاني في السلوك والحركة”. هذا ما يُقال عن فرنسيس، “البابا الرائع”، “بابا الاحياء الفقيرة”. الاسم الذي اختاره له يعكس طموحه: “بناء الكنيسة”، كأنه يلبي الصوت الالهي الذي سمعه قبله القديس فرنسيس من قرون: “فرنسيس، ابنِ كنيستي”. وهذا البناء باشره سريعا بعد انتخابه. “اريد كنيسة فقيرة للفقراء”، اعلن التوجه العام، واضعاً نصب عينيه اصلاح الهيكليات الكنسية، واعادة اطلاق التبشير بروح عصرية. ولكن هل يستطيع تحقيق هذا التغيير؟
في السلوك البابوي، انها “الثورة”. ما يبشر به فرنسيس، يعيشه علنا، حتى لو تطلب ذلك “كسر البروتوكول والتقاليد”، وهنا مكمن قوته، بالنسبة الى خبراء فاتيكانيين. ينتقد الرأسمالية، ويعزز موقفه هذا بالتخلي عن الشقة البابوية الفخمة، ليبيت في دار متواضعة موقتة، مشاركا آخرين في قاعة طعام عادية. يدافع عن العدالة الاجتماعية ويناصر الفقراء واللاجئين… وفي الوقت عينه، يتمسك بحذائه الاسود، مستقلا سيارة مكشوفة أثناء مروره بساحة القديس بطرس، وسيارة عادية في تنقلاته… وصولا الى انتقاده علنا ومرارا ترف عدد من الاكليروس، ومن يسميهم “اساقفة الصالونات”، و”الكهنة المتملقين، المترفين، والوقحين”.
لغة مباشرة، وتعابير آسرة. الشعبية ساحقة لفرنسيس الذي يجد وقتا لمراسلة اشخاص متألمين، والاتصال بمعارف او غير معارف للاطمئنان والتعزية، لمعانقة المرضى، وتقبيل الاولاد بالمئات، والتقاط “السيلفي” مع المؤمنين، “والتغريد” بما في قلبه، وحتى الاعتراف عند كاهن عادي على مرأى من الجميع، ملغيا كل تكلّف. من اللحظة الاولى، فرض “اسلوبه الخاص”. لم يكن مضى على انتخابه اسبوعان، حتى غسل قدمي امرأة ومسلم في “خميس الغسل”، اول امرأة واول مسلم يغسل بابا اقدامهما عبر التاريخ. وقد اغضب ذلك تقليديين ومحافظين، بدأوا يرون في حركته خطراً وتحدياً، لكنه لم يعبأ او يذعن. واعاد الكرة اخيرا.
هكذا، من اول الطريق، مبتسماً، ضاحكا،ً وفي عينيه حرارة اوقعت عشرات الملايين تحت سحرهما. ما يُسَرَّب من الكواليس انه رجل يقرر لوحده، مصمم، حازم، متطلب، متقشف. واذا كان عطوفاً على الفقراء والمرضى والاولاد… فإنه فظ احياناً في تعامله في الفاتيكان، وفظاظته “ذاقها” متنفذون في “الكوريا” وجدوا ربما امامهم بابا قويا، واثقا، لا يسعى الى تملقهم ولا يخشاهم.
في الحصيلة الاولية، بدأ توازن القوى يتغير في الفاتيكان، مع تراجع النفوذ الايطالي، في ظل تعيينات داخلية قام بها فرنسيس. “من مفاعيله انه اعطى صدقية للمشروع الكاثوليكي، ناقلا اياه من التنظير الى الميدان، الى عمل الرحمة”، وفقا لخبراء. قطاره الاصلاحي انطلق: شكّل مجلس مستشارين من 8 كرادلة من القارات الـ5، “ومن اختياره الشخصي”، للبحث في اصلاح الهيكليات الكنسية و”الكوريا”، ما اعتُبِر “من اهم الخطوات عبر التاريخ في القرون الـ10 الماضية”. كذلك شكّل “هيئتين جديدتين هما الأمانة الاقتصادية العامة والمجلس الاقتصادي”، وذلك في ما وصف بانه “إصلاح حقيقي للقطاع المالي في الفاتيكان”.
وفي قضية “مؤسسة الاعمال الدينية” (بنك الفاتيكان)، التي حامت حولها شبهات تبييض اموال طوال عقود، وافق على المحافظة عليها، مع تخفيف القيود عنها وزيادة الاشراف عليها، بدلا من اغلاقها، كما طالب بعضهم. وفي ملف التحرش الجنسي بالاولاد، اكد “سياسة عدم التسامح” التي كان سلفه بينيديكتوس السادس عشر بدأها، مشكلا لجنة خبراء لحماية الاولاد. وبمناصرته تعزيز دور المرأة في الكنيسة، عيّن اخيرا عالمة اجتماع بريطانية لترؤس الاكاديمية البابوية للعلوم الإجتماعية. وهو التعيين الأرفع مستوى لإمرأة خلال حبريته حتى الآن.
في خططه الكثيرة ايضا، تشجيع الدعوات الكهنوتية، واعادة الكاثوليك الى كنائسهم، وايضا نشر “ثورة الفقر” بين اساقفة وكهنة وراهبات، بعد تفشي الترف في اوساطهم. وفي الاحصاءات، ان “تأثيره” يفعل فعله على صعيد الدعوات والمؤمنين، وسجلت استقالات بين اساقفة باذخين، وثمة من اعتذر عن “خطئه” وتراجع، وآخرون باتوا يأخذون حذرهم…
ويبقى الاهم ان فرنسيس فتح الباب على مناقشة مسائل حساسة كان يُعتَقد ان امرها حُسِم مع سلفيه، ومنها زواج المثليين، المطلقون الكاثوليك، الكهنة المتزوجون، كهنوت النساء، وتحديد النسل… تلك المرة التي اجاب فيها: “من انا لأحكم؟”، رداً على سؤال عن المثليين، كانت المفارقة التي ميّزته كليا. لم يُسمع قبلا مثل هذا الكلام. ما يُفهَم من اجوائه انه يشجع ابداء الرأي في تلك المسائل، وانه مستعد للاصغاء. في المعيار الكنسي، هذه الموقف تغييري بحق. “استطلاع الرأي” الذي طلب اجراءه حولها، وشمل كل ابرشيات العالم، ابلغ تعبير. وقد اظهرت نتائجه الاولية هوة مابين تعاليم الكنيسة وما تريده فئة واسعة من الكاثوليك. ومن المقرر ان يتداولها الاساقفة خلال مجمع لهم عن العائلة في ت1 2014. ولعل فرنسيس يعوّل على انبعاث كيميائية جديدة خلاله، تمهّد لتغيير ما. رغم كل ذلك، ليس الجميع سعداء بنبضه. “هناك مقاومات داخلية” له، وفقا للمؤرخ الايطالي اندريا ريكاردي. “ثمة مقاومة ممن لا يريدون التغيير، او لا يريدون العيش بطريقة اكثر التزاما، او العمل اكثر…”. تقليديون، محافظون ابدوا علنا مآخذهم على فرنسيس “غوغائي”، “مقوضًا للهيبة البابوية”، “مرتجلا وخطبه بسيطة”… ومنهم من يتململون بصمت. وايا يكونوا، “فان هذه المقاومات علامة على ان فرنسيس يغيّر كنيسته”.
السنة الأولى تميّزت بأنها كانت “كثيفة ومؤثرة”، في تقويم للمتحدث باسم الفاتيكان الاب فريديريكو لومبارد. “الشيء الرئيسي فيها هو القدر الكبير من الاهتمام بالناس وإنجذاب عدد كبير منهم، ليس من الكاثوليك الملتزمين فحسب، انما ايضا جميع الناس في العالم الذين انشدّوا الى هذا البابا ورسالته”. رائع ذلك، ولكن حذار، ينبّه بعضهم. “يجب عدم رفع سقف الآمال تجاه قدرة فرنسيس على التغيير الفعلي”، مع “اعداء” له من اهل البيت. وللبعض الآخر، خصوصا من عرفوه من كثب، “انتظروا. الرجل سيفاجىء الجميع، وسيتجاوز كل التوقعات”.
هالة حمصي / النهار