في هذه الأيام، تصادف الذكرى 105 لولادة أديب مصر نجيب محفوظ (11 كانون الأول 1911). ومنذ يومين، استُحضر في مجلس الشعب اسم محفوظ بتهمةٍ مضمونها مكرّر، «خدش الحياء العام». وكان المجلس قد اجتمع ليصوّت على قانونٍ يمنع سجن الأدباء بهذه التهمة، بينما الروائيّ أحمد ناجي ينفّذ حكماً بالسجن بسببها، مدّته سنتين. أحدث تصريح النائب استهجاناً عاليَ الصوت، فرفع صوته بوجوب «المساواة» بالعقاب بين الأدباء و «المواطنين» عند «خدش الحياء». لا تُستحضر المساواة إلا بالعقاب: كيف يسجن مواطنٌ بينما تقتصر عقوبة الأديب على الغرامة والمنع؟ وبعدما انتهى، ابتسم للكاميرا وجلس. بدا كشخصيّةٍ محفوظيّةٍ تنهش في المجتمع باباً إليه لتنوجد. ستستقر الكاميرا في محيطه قليلاً، إذ برهن القدرة على منحها المشاهدة. كشخصيّةٍ محفوظيّة، نَهَش في محفوظ لينوجد.
محفوظ يغيظ مشتهي السلطة: 1- لم يترك بلده فلا يسهل اتهامه بالتغرّب، ومع ذلك امتلك نوبل في راحته، 2- حافظ على رفيع الاحترام في الوعي والدولة، مع أن الخمر والجنس والأفكار السفليّة في رواياته تبتلع يوميّات الدولة ودواخل الأفراد، 3- له تمثالٌ في الميدان، وهو «الحرفوش» من حرافيش الليل القاهريّ، 4- منعه الأزهر وكفّره الإسلاميّون، واختلف حوله رجال الدولة وعسكرها (يروى أن ناصر صدّ عنه هجوم عبد الحكيم عامر إثر «ثرثرة في النيل» قائلاً: إحنا عندنا كام محفوظ يا حكيم؟).. ومع ذلك، خرجت جنازة الأديب في موعدٍ اختاره جسمه، من بيته ومرّت بمقهاه، فمثواه في الأرض التي كتبها، كمستقرٍّ بين شديدي التوتّر.
يُقال إن محفوظ كان يكتب لساعةٍ يوميّة، يترك القلم في ختامها ولو كان في منتصف جملة. يقال إنه كان يختفي ليلاً ويعود مع الفجر. يُحكى عن ظهوراته في نواحي القاهرة المستترة، حيث يتقاطع بشرٌ لا يعترف الصباح بتلاقيهم: فتلين حدود الطبقات، الممنوع والمسموح، اللائق وغير اللائق، العاري والمرتدي والمتنقّل بينهما، الصاحي والمتعاطي والتاجر. يقال إن محفوظ كان يقرأ الناس في النواحي، ويكتبهم/نّ خلال الساعة.
يتشدّد نائب اليوم في تثبيت هذه الحدود. ويأتي كالصوت الناشز لكن في بيئةٍ حاضنة. السيدة التي قالت «سيسي يس»، أتت في بيئةٍ سائدةٍ وحاضنةٍ وتمتلك السلطة وترمي نقّادها في السجون والمشارح، ومع ذلك، حكت بحماسة المظلوم. كان المرء ليظنّ أن مجلس الشعب مال ناحية الحريّة، فأتى النائب ليصوّب الوجهة نحو المنع. أبداً. فقد أكّد التصويت السجن كعقوبةٍ للأدباء. ولذلك، ابتسم النائب. ابتسم، فهو المطمئن بينما ناجي سجين.
قال النائب إن محفوظ بقي حرّاً لأن أحداً لم يحرّك دعوى ضده، وتلك كذبة. محفوظ تلقى دعاوى، و «تلقى» أيضاً سكّيناً تكفيريّاً في كتفه. قال النائب أن خدش الحياء يعني المساس بالنظام العام، وتلك حقيقة. بالسيطرة على الأدب، يُرسى النظام. بفرض الحياء، تُفرض القوامة. هذا النائب، كنائب الختان، يذكّر فضاء مصر بإمكانيات خنقه أكثر، ليبتسم كالقادر المتعفف، كأنه يمهل ولا يهمل «المتطاولين». يتماهى مع النظام، والنظام لا يرفض التماهي: فإذا لم يتجرّأ على محفوظ، تراه قد سجن ناجي.
معظم الإعلام عرّف عن الرجل كـ «نائب في مجلس الشعب». ولمّا ذاع صيت تصريحه، صار «النائب». القدرة على الاستغناء عن اسمه تحمل دلالة. فهو واحد منهم، هؤلاء النوّاب الذين يخرجون صائحين بوجوب الختن أو بعقاب محفوظ. هؤلاء الذين يزايدون على نظامٍ قائم، ليُبقوا المساحة العامّة على قلق.
ولكن، لسوء حظّهم، عناصر الخبر صارت تكتمل بلا أسمائهم: لن تُحفظ لهم أسماء، إلا إذا كتبها قصّةً أديبٌ كمحفوظ.
سحر مندور
السفير
الوسوم :نجيب محفوظ: مستقرٌّ بين شديدي التوتّر بقلم سحر مندور