بعضهم لا يصوم. بعضهم يصوم في أوقات الصوم. معظمهم صائمون بلا انقطاع.
الصائمون بلا انقطاع معظمهم صائمون مجبرين لا مخيّرين. هم صائمون لأنّهم، وببساطة متناهية، لا مال في جيوبهم ليبتاعوا طعامًا لهم ولأبنائهم، أو ليتدفّأوا في هذا البرد القارس، أو ليُلبسوا أولادهم حللاً جديدة. هم صائمون لأنّهم بلا وطن، غرباء، بلا مأوى، نازحون، لاجئون، أسرى، مطرودون، منبوذون، مستَعبدون… هم صائمون دائمًا ولا حاجة لهم إلى طقوس وشعائر دينيّة ليصوموا. هم يمارسون صومهم يوميًّا من الفجر إلى الفجر التالي، وليس فقط من الفجر إلى مغرب الشمس.
الصائمون الذين ينفّذون وصيّة الصوم هم، إذا استلهمنا تعاليم السيّد المسيح، يصومون كي يكفّ عن الصوم هؤلاء الصائمين على غير إرادتهم. إذا لم يسهم صومنا في إنهاء صومهم فصومنا باطل وعبادتنا كلّها باطلة. من أين استلهمنا هذه النتيجة؟ من قول يسوع لتلاميذه: “لأنّني جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعدتموني، وسجينًا فجئتم إليّ (…) إنّ كلّ ما عملتموه لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار فلي عملتموه” (متّى 25، 35-40).
في هذا النصّ الإنجيليّ الذي تقرأه الكنيسة الأرثوذكسيّة يوم الأحد المقبل على عتبة الصوم الكبير، يدعو يسوع مستمعيه إلى أن يصنعوا الرحمة لأنّهم، بذا، إنّما يصنعونها معه هو نفسه. وفي الآن عينه، يسعنا أن نقول إنّ كلّ مَن يصنع الرحمة إنّما يقتدي بيسوع نفسه، يصبح على صورة المسيح ومثاله. في هذا الصدد يقول القدّيس أبيفانيوس القبرصيّ (+403) في شرحه هذا القول: “أيجوع ربّنا ويعطش؟ أيعرى، هو غير المتغيّر في طبيعته، الذي خلق ما في السموات وما على الأرض، الذي يغذّي الملائكة في السموات، وكلّ أمّة وجنس على الأرض؟ لا يعقل أن نظنّ ذلك. الربّ لا يجوع في جوهره، بل في قدّيسيه؛ لا يعطش في طبيعته، بل في الفقراء”.
لقد شاء يسوع أن يساوي نفسه بالمنسحقين كي لا يبحث عنه المؤمنون به في بطون الكتب أو في الأيقونات أو في الطقوس، وحسب. وإذا ما نظر المؤمنون إلى السماء لن يجدوا وجه يسوع، هم يجدونه فقط في وجوه أحبائه هؤلاء المعدمين والمعوزين. لذلك لا قيمة للصوم إذا بقي يسوع، أي كلّ واحد “من إخوتي هؤلاء الصغار”، جائعًا أو عريانًا أو سجينًا…
نحن، إذًا، مدعوّون في بحثنا عن التواصل مع يسوع، عبر الصلاة والصوم والعبادات، إلى عدم إغماض أعيننا عن رؤيته في وجوه أحبّته ممّن سمّاهم “إخوتي”. ثمّة في وطننا عدد يفوق الوصف، ويفوق قدراتنا جميعًا، من الفقراء والنازحين والمهجّرين و”الغرباء”، لكنّ هذا لا ينفي أهمّيّة الإسهام في دعمهم ومساندتهم وتأمين الحدّ الأدنى من حاجيّاتهم. لا أحد يستطيع التنصّل من الإسهام في مدّ يد العون بحجّة أنّ ثمّة مَن هم أغنى منه… فحين ألقت الأرملة الفقيرة كلّ ما تملكه، درهمين، في الصندوق، فيما “ألقى الأغنياء نقودًا كثيرة”، قال المسيح لتلاميذه: “هذه الأرملة الفقيرة ألقت في الصندوق أكثر ممّا ألقاه الآخرون كلّهم. فهم ألقوا ممّا فاض عنهم، وأمّا هي، فمن حاجتها ألقت كلّ ما تملك، كلّ رزقها” (مرقس 12، 41-44).
“أريد رحمة لا ذبيحة” (متّى 9، 13) يقول السيّد المسيح. وكأنّي به يقول: أريد رحمة لا صومًا. هذه ليست دعوة إلى عدم الصوم، بل هي دعوة إلى ممارسة الصوم مع مقتضياته. الرحمة، أو المحبّة، لا فرق، هي المبتغى من أحكام الشريعة والطقوس والشعائر والعبادات كافّة. فصومًا مباركًا مرشدًا إلى السلوك الحقّ.
الأب جورج مسّوح
ليبانون فايلز