كتب الدكتور جورج صدقة في الجمهورية في 10 كانون الاول 2021
عندما تساءلتُ في مقالة سابقة «هل يريد المسلمون ان يكون المسيحيّون شركاء لهم في الوطن؟» تلقّيت لوماً من بعض المثقفين المسلمين الذين تعجّبوا من سؤالي، وهم طبعا يعبّرون عن طيب نيّة ان الوجود المسيحي في لبنان هو بديهي ومتجذّر وباق وان لا خطر عليه، كما يعتبرون انطلاقا من ذاتهم ان الشراكة الإسلامية المسيحية هي أيضا بديهية ومتينة، فيما الخطر على الوطن اليوم يكمن في مكان آخر، وبالتالي اعتبروا أن سؤالي يقع في غير مكانه.
مؤسف ألا تكون النخبة المسلمة في لبنان مدركة للواقع المسيحي ولا واعية للقلق المسيحي الدائم المتجذّر في لاوعي المسيحيين وفي حاضرهم، والذي توقظه عندهم من وقت لآخر بعض الطروحات الإسلامية.
قد تكون الأمور أكثر وضوحا إذا نظرنا الى الواقع من منطلق مواقف وطنية لدى الطوائف الأخرى. فالقادة الدروز لم يتوانوا لحظة في الحرب عن طرد المسيحيين من مناطقهم بعدما ذبحوا المئات منهم ودمّروا بيوتهم بشكل كامل. لقد حمّلوا مسيحيي الجبل مسؤولية أخطاء بعض القيادات المسيحية. والكلّ يعرف ان السكان المسيحيين الذين كانوا من أتباع الحزب الاشتراكي لم يلاقوا معاملة أفضل من الذين كانوا في أحزاب اليمين المقاتل.
ولا تزال المناطق الدرزية المسيحية تعيش قلقاً نتيجة المجازر من دون أن تتمكن السنوات الطوال ولا مصالحة الجبل من ان تُنسي الناس ما حصل خصوصاً في غياب سلطة قوية تضمن الحماية للجميع.
من الناحية السنّية، تميّزت مواقف القيادات السنّية منذ الاستقلال بالحذر في تعبير دائم عن رفض لبنان الكبير ونتيجة رفض القيادات السنّية لكيان اعتبروه لا يمثّلهم بالنظر الى حنينهم الدائم الى سوريا. تكررت مواقف القيادات السنّية مرات عدة بعد 1920 منها عام 1936 وعام 1958 وصولا الى السبعينات مع وقوف القيادات السنّية الى جانب المسلحين الفلسطينيين ضد الجيش اللبناني والتصريح الشهير لمدير دار الإفتاء حينها أنه «لا يمكن لمسلم أن يُحكم من مسيحي». كانت ذروة الصراع الأهلي من خلال الفلسطينيين الذين كانوا يشكّلون «جيش المسلمين» كما اعتبر مفتي الجمهورية في حينها.
ولطالما تعرّضت القيادات السنّية التي كانت مقرّبة من السلطة المسيحية للنقد والتخوين، مثل سامي الصلح وشفيق الوزان وغيرهما، فيما كانت القيادات السنّية المقرّبة من سوريا محطّ تبجيل وتكريم على اعتبار انها قيادات وطنية، فيما الأخرى انعزالية.
قد ينسى أصدقاؤنا المثقفون السنّة هذه المواقف التي مضى عليها حوالى خمسين عاما، لكنها كانت المنطلق في نسف لبنان التعايش ولبنان الكيان التعددي. وهي ما تزال مطبوعة في وعي المسيحيين وتثير قلقهم. والتحوّل الذي حصل مع الرئيس رفيق الحريري بأنه أوقف التعداد فيما خصّ التوازن المسيحي الإسلامي وان كان بادرة حسن نيّة منه غير أن ذلك لا يشكل ضمانة حقيقية لا بل يبدو كسلاح مسلّط اذ يمكن في أي لحظة أن يعود العدّاد الى الدوران. المبادرة الشجاعة كانت مع إطلاق سعد الحريري شعار «لبنان أولاً» وهي تساوي مبادرة رياض الصلح التي أسست لقيام «الميثاق الوطني»، غير أن لا الساحة اللبنانية ولا الساحة الإقليمية جاهزتان اليوم كي تؤسس هذه المبادرة لانطلاقة وطنية جديدة.
من الناحية الشيعية، كان شعار الحرمان رأس حربة القيادات الشيعية المعارضة منذ السبعينات بهدف نقض النظام اللبناني رغم أنه لم يظلم المسلمين يوماً كما لم يسجّل عليه وجود محكومي رأي ولا مساجين سياسيين على عكس كل الأنظمة العربية. طبعاً النظام اللبناني ذو الوجه المسيحي لم يكن مثاليا لكنه لم يكن ظالما ولا قامعا ولا مضطهدا. الشعور الشيعي بالغبن هو في لا وعي الطائفة المضطهدة تاريخيا لكن ليس من المسيحيين، والامام موسى الصدر أول من رفع راية حقوق الطائفة لقيَ كل الدعم من القيادات المسيحية، وبدأت الطائفة بالحصول على امتيازات اضافية في ظل النظام ذي الوجه المسيحي، الى أن دخلت الطائفة في رهانات وتحالفات على مستوى المنطقة من التحالف مع النظام السوري الى التحالف مع النظام الإيراني على حساب شركائها الاخرين في الوطن، وهي مواقف جَرّتها الى حروب المنطقة التي مهما قيل عنها، تتعارض مع مصلحة لبنان واستقراره ومصلحة شعبه، كما أنها مواقف قد لا تحظى حكماً بموافقة القاعدة الشعبية للطائفة الشيعية.
وقد تمكّن «حزب الله» من أن يضع يده على القرار الأمني والسياسي بعد انسحاب القوات السورية وذلك بغطاء مسيحي من قيادة التيار الوطني الحر. فلا الحزب استخدم التحالف مع التيار لمصلحة لبنان كما كان يفترض، والدليل على ذلك أن ورقة تفاهم مار مخايل بقيت حبراً على ورق، ولا التيار احترم وعوده لقاعدته الشعبية أو دماء شهدائه الذين سقطوا دفاعاً عن مبادئ بعيدة كل البعد عن الاستخدام الذي قامت به قيادة التيار في خدمة «حزب الله» سعياً وراء مكاسب مادية أو في سبيل كرسي مخملي. وطبعاً لن يردّ مسؤولو التيار على الموقف الأخير للشيخ نعيم قاسم الذي دافع عن مبدأ الدولة الإسلامية على «أنها جزء من المشروع الذي يؤمن به عقائديا وثقافيا».
وهكذا باتت القاعدة المسيحية تشعر بالعزلة والقلق، وكأنّ المسيحيين هم الطائفة الوحيدة التي تنادي بلبنان السيد والحر والتعددي، في وقت تبدو الطوائف الأخرى ساعية لمصالحها الضيّقة او حتى لمصالح قياداتها الذاتية. لذا، كان الدافع الى السؤال الذي طرحناه: هل حقاً يريد المسلمون أن يكون المسيحيون شركاء لهم في الوطن، اذ لا قيامة للبنان إذا لم تعد هذه الشراكة في إطار مشروع مشترك ورؤية موحّدة.
أكثر من أي يوم مضى يبدو لبنان على مفترق طرق، كل طائفة تغرّد من ناحيتها، وكل طائفة تسعى الى مصالحها الذاتية مع غياب مشروع وطني يجمعها وغياب قادة تحمل مشروعا على مستوى الوطن. قيادات الطائفة الشيعية تنظر ناحية الشرق مع رهانات على انتصار جبهة الممانعة. قيادات الطائفة السنّية المحبطة من فشل الثورة السورية ومن غياب قائد لها بعد رفيق الحريري تفتقد لمن يحمل صوتها ويوحّد موقفها. قيادات الطائفة الدرزية تنتظر قطار التسوية لتركب فيه أنّى كانت وجهته. القيادات المسيحية في حال انقطاع عن معاناة قواعدها الشعبية وكأنها تعيش في بلد آخر، امّا غالبية الشعب اللبناني فقد كفرت بقياداتها نتيجة الذل والفقر غير المسبوق الذي تعانيه وباتت تشعر أنها تعيش خارج الدولة وخارج الزمن.