في الخبر الذي يأتي بإقفال «السفير»، سرديّة لحكايات تطوّر التقانة من الصحافة الورقية المكتوبة إلى الصحافة «الإلكترونية»، ولا تني السردية في نعي «السفير» وأخواتها بإطناب قدَر «الحداثة» وفتوحات الترقّي الإعلامي برغم حنين عابر بمناسبة المأتم إلى ما كان طقوساً حول فنجان قهوة وتمتمة في الثقافة. لكن انقراض الكتاب والصحافة المكتوبة هو انقراض عصر القراءة والكتابة في العودة إلى مجاهل الصورة في المغاور وإلى ثقافة الإشارة والرموز قبل الحضارة، بالقضاء على تراث هائل من تراكم خبرات ومعارف إنسانية شاقة، يمتد تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد حيث بزغت في سوريا وبلاد الرافدين. فالعصر الذي يغزو الثقافة والإعلام بأسلحة الدمار الشامل «الإلكترونية» لا يُلغي تقانة ورقية طباعية، بل يبدّد الإرث الإنساني العاقل في التخاطب والتواصل وفي تبادل المعرفة بين جماعات بشرية تنتج معارفها بنفسها بمقدار حاجاتها لتنظيم حيوياتها.
ولا تُنتج «الفسبكة» و»التوترة» وغيرهما معرفة لاستخدامها بتلبية احتياجات نشاطات الحياة الإنسانية، إنما تُنتج سلعاً استهلاكية يُصنّعها للأفراد المنزوين في الجحور صناعيّو «الخبر العاجل» ووجبات «الفاست فوود» لغبّها ساخنة قبل أن تفسدها دقائق الإدراك والتفكّر. وهي فضلاً عن ذلك ليست ثورة إبداعية فائقة الاكتشاف على ما يروج في سوق مزارع تربية الدواجن، بل تعود إلى تقنيات المغاور البرّية تستلهم التعبير بحروف متقطّعة والتصوير على الآجر، على ما بدأت به الحضارة الآكادية ــ الأشورية جُملاً في بضع كلمات لأوائل لبنات اللغة والمحادثة. لكن التشابه في أدوات النقل والتعبير بين الآجر و «الإلكترون»، تفصله هوّة في معنى الحضارة الانسانية بين إبداع بشري «بدائي» لتكوين التواصل باللغة أبعد من الجماعة الضيّقة، وبين تصنيع أدوات هائلة «التطوّر» لعودة الفرد إلى قوقعة انعزاله عن الجماعة الضيّقة في البيت والعمل.
الكتابة على الورق مخاض تفاعل دهري في الجهود والمعارف البشرية لتكوين الحضارة. فتطوّرت في مسار تنظيم الري والبستنة والعمران، آخذة في بلادنا ورق البردى علماً لحفظ الذاكرة في القراءة. وان تقرأ فأنت العقل المجتهد في تفكيك رموز الكلمات والجمل في مساءلتها وفي استخلاص المعنى ومن ثَمَّ إعادة انتاج القراءة نفسها بمعانيك الخاصة. فيأخذك الجهد في الوقت إلى حيرة الزمان والمكان في تاريخ الانسانية. وما الإقبال على استهلاك المعرفة، «لكي تعرف أكثر»، سوى تصحّر لأفضل المعارف المتراكمة على خيط الزمن.
فالمستهلك النشيط للخبر العاجل على هاتفه، كالسمكة التي تبلع طعم الصنّارة، لكنه يتّخذ من الطعم إيحاء بغذاء زيادة المعرفة يُوحى إليه في صناعة الخبر على عجلة وتسرّع. ولا يتسع له الوقت في مساءلة الخبر والمعلومة ولا التفكّر في الحدث ودلالاته، إنما يأخذه الصياد مطيّة له غالباً كحصان طروادة في إعادة البث رافداً للضخ الكثيف. ولا تسري لعبة الطعم والسمكة عرَضاً، فهي تدغدغ نرجسية «الحريات الفردية» في استحواذ شبهة المعرفة شكلاً من المكانة الاجتماعية، من دون جهد في القراءة والكتابة. فالصدى الذي ينقله مجتهد «الفايسبوك» يتوهمه رأيه الخاص مقابل رأي صدى مثله، على ظنّ بسويّة «الحوار بين الرأي والرأي الآخر». وهو على الوجه الأعمّ عودة لثقافة ما كان يسمّى في الأحياء المدينية الشعبية «خبريات نسوان الفرن» حيث تبثّ نساء الحارة لقضاء الوقت ما خفي وغير مباح من حكايات معظّمة لفضائح «من تحت الزنّار».
المكتوب والمقروء نموذج حضارة انسانية على شفا الانقراض، في إشارة إلى انهيار العمران في التفاعل المتوازن بين الثقافات. وما كان اكتشاف مطبعة «غوتنبرغ» في ألمانيا العام 1450، من دون صناعة الورق في البلدان العربية إلى طريق اسبانيا وأوروبا، أو من دون تراكم معارف الحرف انطلاقاً من بلاد الرافدين ومصر القديمة. وظلّت ثقافة الحرف المطبوع في كتاب أو صحيفة تحمل طابع المقدّس اعترافاً بالجميل لتضحيات الأجداد. ففي أحد أحياء بيروت القديمة كان بعض الشيوخ المسنّين يلمّون قصاصات الورق من الأرض كما يلمّون فُتات الخبز، ويضعونها بين حجارة حيطان بيروت قبل أن يلتهمها الاسمنت.
في هذا السياق بزغت «السفير» في واجهة بيروت البحرية، في غمرة صراع بين لبنان المرفأ والمتجر «المنفتح» على الغرب وبين لبنان المقرّ المطل على الشرق والشمس في العالم العربي. كتابة وقراءة تمحورت الثقافة الاعلامية والسياسية حول «السفير»، في صفحاتها حواراً ونقداً أو خبراً محقَّقاً غير متعجّل. فـ «السفير» مَعْلَمٌ في بيروت تحمل ذاكرتها وتراثها، حين كانت بيروت لأهلها في البلد والتلال المحيطة تعجّ بتينها وصبّارها ونخيلها وجمّازها. ولم تُبقِ التقانة على بيئة «السفير» الحاضنة في بيروت، منطلقاً لصوت لبنان في عالم العرب، ولم تُبقِ في بيروت على أهل بيروت المطرودين إلى علب السردين، ولا على ذكرى حدائق الخضار البيروتية وصيد البحر وعلى الحنين إلى وسط البلد.
ذبلت «السفير» باضمحلال القراءة والكتابة بالتوازي مع انهيار لبنان والعالم العربي، فالحال من بعضه. فـ «السفير» وليدة بيئة وبنت عالم وعصر يتخاطب فيه الناس ويتواصلون ويتناحرون بحثاً عن صوت الحقيقة. وكان لكل منهم حقيقته لكن سرعان ما يتكشّف بعضها الافتراضي الوهمي في مجرى ديناميات عالم لم تكن فلسفته بعد كلها هرطقة عالم وهمي افتراضي. أشفق على جاري أبو غسان العزي المتأبط صباح مساء بجريدة «السفير» يحفظها عن ظاهر قلب متمسّكاً بخيط رفيع لوصل مشبع بالأمل مع الزمن الجميل وحفظ البقاء. يقول أطال الله بعمره: ماذا عساني باقٍ لأفعل بعد «السفير».
قاسم عز الدين
السفير