شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | لبنانيون من أجل الكيان | نقد لمقدمة كتاب الدكتور وسام اللحام
نقد لمقدمة كتاب الدكتور وسام اللحام

نقد لمقدمة كتاب الدكتور وسام اللحام

“لبنان دولة مدنية – حقيقة دستورية”

بقلم الأب د. ميخائيل روحانا الأنطوني

بالأحرى هو كتيب من مئة صفحة وصفحة (101 صفحة) بقياس 16×23 سنتم، صادر عن “دار سائر المشرق”، بيروت، طبعة أولى، 2023، حاملا الرقم الدولي الموحَّد للكتب ISBN 978-614-451-347-7 ليُعِدَّ القارئ لاكتشاف هويته من خلال اكتشافه لهوية دولته: هل هو دولة دينية، طائفية أم مدنية؟

إنه كتيب كالكتيبات التي وضعت عند التحولات الكبرى في التاريخ البشري: صغيرة الحجم إنما فعلها ذو تأثير كبير على مسار الدول ومصيرها. غالبا ما تكون هكذا كتيبات ملهمة، ثروة للوعي والفهم، وثورة على الجهل والتعامي وفرض الأمر الواقع على العقول المنوّرة، أكان من جهة الحكام أم من جهة المواطنين.

نُقدِم اليوم على نقد مقدمة هذا الكتيب من عدة زوايا، ولو بإيجاز، لنشرك قراءه المُحتَملين بعض الإطلالات على المفاهيم الفلسفية المؤسّسة للسياسة الصالحة التي أراد الكاتب، من خلالها، إثبات احترام الدولة اللبنانية للشرع الخاص للطوائف التي توافقت سنة 1920 على إقامة دولة لبنان الكبير.

نعم، يؤكد الكاتب في خلاصة كتابه، بأن الدولة تحترم الشرع الخاص لكل من تلك الطوائف، وغيرها، ولكن من دون أن تتنازل، موضوعيا، عن سيادتها، ومدنيّتها، وأولوية تشريعها على أي تشريع آخر. وبهدف عدم الإطالة سنتوقف فقط عند بعض التحديدات وبعض المفاهيم المؤثرة في منطق النص ككل.

  1. في التحديدات Des definitions.
  2. في المفردات Des concepts.
  1. في التحديدات Des definitions.

يحدد الدكتور اللحام الدولة الحديثة بانها “عبارة عن إطار مؤسساتي قانوني يستمد شرعيته من ذاته، لذلك كل دولة حديثة هي بماهيتها مدنية”.[1] والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما المقصود بأن الدولة تستمد شرعيتها من ذاتها؟ أليس في هذا نكران لدور الشعب كمصدر للسلطة؟ ولكن سرعان ما نجد الكاتب يتنبه لهذه الإشكالية ليدافع عن تحديده “الأولي” هذا للدولة الحديثة بطرحه، من الباب الفلسفي للأمور، سؤالين في سببية قيام الدولة: ما المسوغ لقيامها؟ من أين تستمد شرعيتها؟ وسؤال ثالث في الهدف الذي أنشئت لأجله. أي سلوكيتها الصانعة للدولة.

بالنسبة للسؤال الأول الذي يطرحه:

“ما هو مصدر الشرعية الكفيل بجعل الدولة مدنية؟”

يقول الكاتب ” بأن [الدولة] تكون نتيجة لإرادة عاقلة تضعها من أجل الوصول إلى غايات معينة”. (والمقصود هنا هو حكما الخير العام لمؤسِّسي الدولة وكرامة العائلات والأشخاص التي تتكون منهم) وهذا لا جدل فيه. 

ويعترف الكاتب بأنه، بالتالي، “لا تكون السلطة السياسية التي يتمتع بها الأشخاص أو المؤسسات انعكاسا إحالة طبيعية يجب التسليم بها والخضوع له تلقائيا، بل هي في حقيقتها اختراع يظهر في ظروف تاريخية معيّنة وهو يخضع دائما للتطورات التي تفرضها حاجات المجتمع.”[2] وهذا لا جدل فيه أيضا.

وينهي الدكتور اللحام تحديده العلمي الموسّع للدولة بالقول:” الدولة المدنية هي إذا تنظيم إرادي (صنع إرادة البشر)، وضعي (يكتب ويقرّ ديمقراطيا أو توافقيا ويطبق على الجميع)، لا طبيعي (أي لا يولد لا من الريح والشمس والتفاعلات البيئية) …”.  

على أن هذا التحديد، عدا أنه يعارض التحديد “الأولي” ويصححه، يقتضي أيضا أن تتضمن الدولة مبدأ الصيرورة ضمن حركة التاريخ اللولبية الواردة في مقدمة كتابنا الجمهورية الخامسة: الحل للمعضلة اللبنانية.[3] وما هو المقصود بالصيرورة هو أن الدولة، أيا يكن نوعها، هي شخص معنوي حي، له نبضُ نموٍ، وتطورُ عمرٍ، هما من عمر الشعب ما دام شعبها متحدا حول رؤيته التأسيسية، وخلال هذه الصيرورة لا بد أن تتعرض الدولة لانتكاسات يُفترض استباق حلول لها.

هناك نقطة ثانية في المبادئ التي تدور في فلك التحديدات تحتاج إلى تدقيق، ثم تمييز، ومن ثم توضيح، إذ يقر الكاتب في الصفحة الثامنة بأنه “لا يمكن للسلطة السياسية أن تكون وضعية فقط”، أي تتوالد من النصوص النظرية فقط فتتسبب بشرنقة شرعية الدولة على ذاتها، حول أيديولوجيات جامدة، “بل يجب أن تكون بشرية… وفقا لمبادئ يتوصل إليها العقل عبر المشاهدة والتجربة … لذلك نقول إن الدولة المدنية هي تنظيم ينبع من إرادة البشر الصرفة”.

وهنا بيت القصيد. أليس من المعروف أن سقراط قتلته الديمقراطية التي نادى بها بالحكمة، لكنها باتت ديمقراطية أثينا التي توصل إليها العقل البشري، وقامت حينها على إرادة الأثينيين الصرفة خارج كل حكمة؟ عليه نتساءل عن مدى صحة أن يكتفي قيام الدولة المدنية كتنظيم ينبع من إرادة البشر الصرفة”؟ وكيف تستوعب الفلسفة هذه “الصرفية” عندما تقارنها بإصرار سقراط وتلامذته على دور الحكمة المطلقة في إدارة المدينة وتثبيت أخلاقياتها، الحكمة هي سيدة التشريع والدساتير والحكم الصالح؟[4]

الحكمة، أولا وآخرا، هي ما عليه أن يقف خلف كل عقل عاقل ومدرك لعقلانيته ومنطق وسياسة ودولة. ألا يحكم لبنان اليوم بشر لهم عقول وكل منهم يدّعي أنه يملك كل العقل، بحكم أنه يملك السلطة والمال والإرادة الصرفة، ويعتبر أن الآخرين كلهم على خطأ، وبالتالي الأمر يعود له ؟ أين الحكمة والمنطق والإفراز من لبنان؟ وهل لتسعة وتسعين رجل ناقصي الرأي أن يخرجوا برأي صحيحٍ كامل؟ وهل الحكمة هي أمر ديني ماورائي أم ثابتة منطقية في صيرورة دائمة مع تطور عقل الإنسان في ضوء خبراته منذ أدرك ذاته إنسانا؟ كيف نعيد الحكمة ومبادءها الأساسية غير القابلة للجدل إلى دستور لبنان والسلطة القضائية فيه؟ هل من مشكلة تعيق هذا الأمر في المفردات؟

  • في المفردات Des concepts:

في الصفحة الثامنة سلسلة حقوق وامتيازات للفرد يسردها الكاتب على الشكل التالي: “الأفراد يوجدون، الأفراد يقيمون، الأفراد يتعاهدون، إرادة الأفراد كفيلة إلخ…”

نلفت من باب الفلسفة إلى ضرورة التمييز في النص والكتابة، بين مفهوم “الفرد” Individu, ومفهوم الشخص Personne وإلا قد تُتهم النصوص الدستورية بفك ارتباطها مع المفاهيم التي تطوّرها الفلسفة بحكم تطور العقل البشري. فمنذ إطلاق هايدغر لفلسفة الآخر Das Andere والآخر المطلق Das Ganz Andere ودعمها بنظرية ضرورة كينونة الأخر Dasein لكينونة الأنا والجماعة Mitsein، المعرّبة “المَعيَّة”، لم يعد مقبولا ان نتحدث عن فرد غير اجتماعي، أي لا علاقة له بآخر… ولا حتى بالآخر المطلق الذي قد يكون مبدءا نظريا تسند إليه الصفات الكمالية لأدبيات وقيم مجتمع ما، لعقد اجتماعي صالح لوعي جماعي ما Conscience collective، يحافظ من خلاله على كل ما هو خير عام لحياة الجماعة أولا، ولأفرادها ثانيا، أدبيا وقيميا وعدالة، وحتى ماورائيا، كما فعل ديكارت يوم أعاد اكتشاف “الله”.

نعم، الديمقراطية في الجمهورية Res-Publica، ليست بالمعنى الدقيق حكم الأفراد المجتمعين في شعب حول مصالح كل منهم الشخصية، إنما حكم الصالح العام، أو بمعنى أدق، الخير العام للجماعة، وما يعود بالتناسب العادل للأفراد منه.

إذا في الدولة، وبالتالي في دستورها وقوانينها، ما من أمر يعلو على الحق العام، على الصالح العام، على الخير العام. عليه، من البديهي أن لا تعود نقطة الانطلاق إلى مصالح الإفراد وبخاصة عند التعاطي بالمجتمع الإنساني. فكل “إنسان” ولد من رجل وامرأة، وبحكم الحمض النووي الذي يحمل خريطة حياته، هو واحد في تعدد، هو شخص عائلي وبالتالي هو شخص أخروي، يتأنسن بما له وما عليه تجاه عائلة، ثم تجاه مجتمع، ثم مدينة، ثم دولة. فهل من الممكن أن يُبنى نص قانوني أو دستوري للبنان على أساس مفهوم “فرد” بدل من مفهوم “شخص” أم، كما يقال، نحن ملزمون بالمفاهيم المستوردة والمعربة، تعريبا خشبيا، عن النصوص الفرنسية؟

لدينا عبقري في لبنان فهم هذه المقاربة وهو زياد الرحباني الذي أدخل في إحدى مسرحياته عملية حسابية في الجمع المقارن بين الرياضيات والمجتمع اللبناني عندما سأل “كم يساوي واحد زائد واحد؟” وأكد انه في مجتمع كلبنان لا يساوي اثنين مطلقا، بل اصطفاف أُحاديات قرب بعضها.

نعم التمييز بين الفرد والشخص يؤثر في كتابة الدساتير والقوانين، وهذا يشكل صلب المعضلة في النظرة التقديرية لقيمة الشخص البشري، بخاصة عندما نقارن بين سكان الشرق وسكان الغرب، وبين التعاليم الدينية المتعددة. ما أهمية الآخر بالنسبة لي أنا، للجماعة، للوطن؟ ما المدى الذي يغطيه مفهوم “مواطن” الذي يتكون الوطن من أعدَادِه؟ سؤال عضوي يطرح نفسه.

ماذا لو استبدلنا عبارة فرد بعبارة “شخص” بعد مقدمة موجزة عن ماهية الشخص البشري ومسلماتها… هل تخرج المادة القانونية عن محورها؟

إن ما تقدم به الدكتور اللحام يكشف مدى تألمه الوجداني لحالة وطنه التي وصل الخلط فيها بين ما هو لله، وما هو لقيصر، أوجه. وبالتالي لا ننفي أبدا بأنه قد أقنعنا، لشدة حجته ووسع علمه والمقارنات الغنية والواسعة التي قام بها حول “مدنية” الدولة اللبنانية، وبفذاذة المشترعين فيها وجهودهم الجبارة التي سقطت عند زعماء الميليشيات، وزناد رشاشات أزلامهم، ووسائل إعلامهم، وغرائز عبيدهم المدسوسين في القضاء والعسكر والتربية، والإدارات العامة والمالية، وحتى في غياهب “الشرع الخاص” الديني.

إن الخلل الرهيب بالتسليم بدستور منتقص وُضع من قبل أمراء الحرب والمال للحفاظ على مكتسباتهم وتسخير كل مقومات الدولة لحماية حياتهم ومصالح عائلاتهم وازلامهم الخاصة، بأنواع العنف والتخنيع على أنواعها، أوصل لبنان إلى حالة “التحلل” على صعيد سلطاته كافة وسقوطه سقوطا عظيما، واضطرار ما بقي من شعبه الواعي، المثقف، والمدرك لحقيقة الأمور للرحيل، فراح يهاجره، ونأمل ألا يكون إلى أمد غير محدد. الهمة همة حكماء الأمة الأصيلين.


[1]    ص. 7

[2] ص. 8

[3]  الجمهورية الخامسة: الحل للمعضلة اللبنانية، تورونتو – كندا 2022، ص. 41

[4]  لن نقارن بما اتى في الكتاب المقدس عن هذه الأمور، وفي الفترة الزمنية ذاتها.

عن ucip_Admin