حَمَلَ يوئيل النبي روح التبكيت والتجديد؛ مذكِّرًا الشعب بالخراب الحادث وبانقطاع روح الفرح والبهجة من البشر وتهديد الأعداء لهم… ثم نادَى عليهم بالتوبة والرجوع والصراخ إلى الله.. خاصة : الكهنة وخدام المذبح والشيوخ؛ كي يتقدسوا ويصوموا وينوحوا ويصرخوا لله؛ فيرحمهم كعظيم رحمته.
وهذا ما يحتاجه عالمنا اليوم بمناداة البوق من أجل مفارقة الشر والكذب والنفاق ورفض الانقياد وراء مخادعات إبليس؛ حيث تجرﻱ كلمات يوئيل النبي أمام عيوننا الآن؛ في ازدياد الخراب والقتل والسفك والخطف والدم والحرق والجوع والحروب والإمحاء… ولاطريق أمام العالم إلا طريق الرجوع لله مخلص كل أحد؛ لأنه إله رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة، وقابل إليه القرابين والتقدمات وكل سَكيب طاهر.
روح الله القدوس الرب المحيي هو (عنصرة دائمة) حاضرة في كنيسة الروح؛ لتوقظ ضمير العالم الغافل والميت، وتمزق الحياة الكاذبة والمنافقة التي يعيشها اللاهين، وهو الذﻱ يسكب الرأفات والمراحم الصادقة على الراجعين والتائبين من كل الرتب والطغمات؛ مانحًا الغفران بدم صليبه؛ وبروحه الأزلي يبرر كل نفس تعبده بإخلاص؛ لا من أجل برّها وذاتها وتاريخها ونجوميتها ومجدها الشخصي؛ لأنه روح يقدس الذين يطيعونه؛ روح مجدد للكهنة ولخدام المذبح؛ كي يرجعوا إلى نذور تكريس دعوتهم ، ويخدموا لا خدمة العين كمن يُرضي الناس.
تاركين عنهم (عنب السُّم وعناقيد المرارة) التي سمّاها يوئيل النبي بسُمّ الأُفعوان؛ التي تخدعنا بمعقولات إبليس المعسولة ؛ وتثقِّل قلوبنا بالشهوات التي تمزقنا؛ إنما مشتاقون بجدة إلى قبول عصير الخمر السماوﻱ الجديد (عنب الكرمة)؛ ساجدين عابدين زاهدين في الخفاء، متمتعين بسكنَى روح الفرح المُحيي وثمار حلاوة الوحدة (تين الكرمة)؛ حاملين شمس بر ملجأنا؛ الذﻱ يشع فينا ببياض نوره وثياب عُرسه ؛ فندخل أقداسه مقدمين قرابيننا وذبيحة إيماننا وسكيبة أرواحنا المنسحقة؛ حتى نرتوﻱ ونشبع ونغتني..
إنها دعوة لا للهروب من الله؛ بل للهروب إلى الله واللجوء إليه ؛ صُلحًا وصفحًا ”أسْرِعُوا وهلُمُّوا“ (يوئيل ٣ : ١١).
لقد تكلم نبي العنصرة عن يوم الرب؛ الذﻱ يمنح فيه سكيب روحه القدوس (إني أسكُبُ من روحي على كل بشر)؛ وهذا هو يوم الخمسين الدائم في الكنيسة؛ والسارﻱ القوة؛ ليؤلفنا ويوحِّدنا ويقدسنا؛ بالوعد الإلهي دائم الانسكاب بالنبوة والأحلام والرؤَى للجميع؛ فيكونوا كسهام بيد جبار؛ وآنية مملوءة من النعمة.. إذ لا يمكننا أن نرضخ لما نحن فيه؛ ونبقى قاعدين على هذا الجبل ؛ حيث أن روح الله روح حرية ”يهُبُّ حيث يشاء“ (يو ٣ : ٨)، ولا يمكن أن نشير عليه نحن؛ أين يهُبُّ؟! وإلى أﻱ مكان يذهب؟! لكننا فقط نُطيعه ونتجاوب معه بالقبول والاستجابة؛ مهما كنا وأينما كنا؛ من أجل ضعفاتنا وجهالاتنا.
فلا تستولي علينا نزعة التعالي والظن الخاطئ بأننا نُخبة الروحانيين؛ بينما الروح القدس ينسكب ”على كل بشر“ (يوئيل ٢ : ٢٨)؛ ويخلصنا من أﻱ استيلائية أو فَرْدَانيَّة؛ إذ لا خلاص لنا إلا ضمن الكنيسة وبالكنيسة ومع الكنيسة؛ التي لا خلاص لأحد خارجها.
فالمسيحي ليس بمسيحي وحده؛ لكنه المتحد بالثالوث القدوس وبجماعة المؤمنين وبالقديسين سحابه الشهود.. الروح القدس هو الذﻱ يعمل من أجل التآلف والوحدة؛ ليحل كل الخلافات والانقسامات والمشاجرات؛ ويُنهي الملاسنات؛ لأنه روح محبة واتفاق ووحدة، وهو أيضًا روح التحرير؛ الذﻱ يحررنا من الأنانية والشِّلَلية المفسدة، ومن أﻱ قيد يحُول دون خلاصنا الأبدﻱ.
لذلك عندما نعيِّد فصحيًا لحلول الروح القدس في يوم العنصرة، نترجَى حلوله علينا لنلبس قوة ديناميكية من الأعالي، فنعمل عمل الله لا عمل أنفسنا؛ ونخدم الله لا أنفسنا؛ ونكرز بروحه لا بأرواحنا، روحه روح الحكمة والمصالحة والمجد والرأفة والتبكيت والاستنارة والبصيرة (عَيْنَاكِ حمامتان)؛ والتدبير الذﻱ يرفُّ على وجة الغمر بالبهجة المفرحة؛ وبالعسل وقطر الشهد والتعزية؛ التي تقودنا وترشدنا وتدافع عنا بعطايا الفهم والمعرفة ووقار السلطان.
لقد بكَّت النبي يوئيل الكهنة وخدام المذبح؛ لئلا يظنوا أن هذه الإنذارات سينقلونها فقط بشفاههم؛ من دون أن يعيشوها ويقدموا أنفسهم أيقونة قدوة؛ كي يُضرموا الموهبة بالصلاة والسكون والأمانة في ربح الوزنات بغير تشامخ ولا ترف ولا تعالٍ؛ لأن فضل القوة لله لا من أحد؛ كائنًا مَنْ كان، وحتى لا يكون رصيدهم مجرد ملابسهم السوداء ومناظر هيئتهم وقد استوفوا أجورهم، مديحًا وتكريمًا أو صَلَفًا واكتنازًا.
إن العنصرة هي للعَصْرَنَة والتجديد الدائم المرتبط بالتوبة المستمرة والعبادة والسلوك العملي والشهادة التي لا تتوقف إلى النفس الأخير.. تجديدًا في خبرة ودراسة الكلمة والوصايا الواسعة جدًا والتي لا حدَّ لها.. تجديدًا في فهم أعمق للعبادة والطقوس والأسرار (بالروح والذهن أيضًا).. تجديدًا في أساليب الخدمة ووسائل الكرازة.. تجديدًا روحيًا في السلوك الإنجيلي ؛ لأن الروح القدس ينطفئ وينحبس في أجواء الرخاوة وخصومات الحسد؛ لكنه يوحد الإخوة الساكنين معًا؛ ويجعلهم مثل قيثارة؛ مبنيين مسكنًا لله في الروح، رافعًا من بينهم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وحسد.
لقد نادَى يوئيل ”لِيَبْكِ الكهنة خدام الرب ويقولوا : أشفق يارب على شعبك ولا تُسلِّم مِيراثَكَ للعار“. ولا زال صوته النبوﻱ ممتدًا؛ يحدثنا عن خجل الفلاحين وفلس الكرَّامين؛ وتلف الحنطة والشعير من حصيد الحقل، وجدب الأرض؛ وتقحط الحقول من الزحاف والغوغاء والطيار (يوئيل ١ : ٤)، حتى ذبلت الثمار ويبُست البهجة؛ وصارت الكرمة خربة متهشمة؛ والأهراء خالية والمخازن منهدمة؛ لأن جداول المياة جفت والنار أكلت المراعي.
أمَّا الآن فقد حان وقت صوت البوق، للسماع والإصغاء ونوبة الصحيان، للتوبة والاتزان ونوال فرح الابتهاج وتقديم سكيب بيت إلهنا. حان وقت الرجوع (بكل القلب) حتى نشبع من القمح والمسطار والزيت، ويتعظم عمل الرب؛ وتعطي الأشجار قوة ثمارها بالمطر المبكر والمتأخر، وتمتلئ كل البيادر والمعاصر والتلال من ماء ولبن الفرح، وتخرُج ينابيع الأشفية والأعاجيب من مجارﻱ بيت الرب، فنستعوض عن السنين التي أكلها الجراد، ناهضين للنجاة، مسبحين عجائبه كل حين.