يُعتبر كتاب سيرة أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس الرسولي من أهم وأقدم الكتابات التي تخص عِلم (الأجيولوچيا)؛ وهو العِلم الخاص بأدب سِيَر القديسين… وفي هذا الكتاب الأسانيد الكتابية التي تفسر كل فعل وسلوك في حياة القديس أنطونيوس المصري أبي الرهبان في العالم كله. ذلك لأن القديس أثناسيوس كلاهوتي بارع أراد أن يوثق كتابيًا كل مبدأ وقول جاء في السيرة العطرة التي لفخر الرهبنة؛ والتي دوَّنها لنا وللأجيال كلها في صورة قصصية وفي شكل رسالة ووسيلة إيضاح للقديس أنطونيوس كناسك إنجيلي؛ واصفًا طريقة حياة أنطونيوس المباركة وأخبار ذكرياته.
ومن هنا جاءت سيرته تصويرًا واقعيًا لجانب من الحقيقة الإلهية بعد أن صار طريقُه مطروقًا من كل الساعين في دُرُوب الكمال؛ وبعد أن امتدّت الحياة الإلهية العاملة في سيرته؛ وزادت شعلتها وحركتها لتشمل العالم كله؛ وليقتدي به كثيرون من كل الأمم والشعوب. وبعد أن تحول إلى ملاك بشري؛ محبًا لأولاده ساهرًا صاحيًا مبادرًا معتدلاً… وقد أعطاه الله نعمة عمَّر بها البراري وجعل منها مدينة لله.
كاتب السيرة وصاحبها معًا هما أعظم من أنجبتهم الكنيسة. وقد جاءت السيرة معبِّرة عن ملامح هذه العظمة الروحانية والعجب والمعونة؛ فقد أكد البابا أثناسيوس على ملازمته طويلاً للقديس أنطونيوس؛ وأنه سكب الماء على يديه؛ أي خدمه عن قرب. لذا شهد عنه بأنه شهيد في جهاد الإيمان والنسك. كذلك يذكر كيف تأثرت به نفسيته تأثرًا غاية في العمق، وظل وجه أنطونيوس ووداعته وحركاته الهادئة وسلامة نفسه وهدوءه منطبعة في ذهنه ولا تفارقه.
واحتوت السيرة على أوصاف القديس أنطونيوس والتي وُصف فيها بتواضع الروح والدِعة والطِيبة… وبطلعته التي كانت تنمّ عن نعمة عظيمة وعجيبة مُعطاة له من المخلص… كذلك تميز برصانة الأخلاق وطهارة النفس والخلو من كل شائبة… هيئته ساكنة هادئة ومُفرحة، ونفسه سالمة سلامية. لم يوجد حزينًا أو مُشتتًا ولا عابسًا ولا ضاحكًا، ولم يكن ذليل النفس أبدًا؛ لكن قلبه كان جزلاً وشجاعًا… مطيعًا للوصية الإلهية، منطلقًا بالروح الإنجيلية؛ التي صارت له مَكينة الأصول في جعل الوصية واقعًا، فلم تكن طاعته للكلمة مجرد كلام ولغو لسان؛ ولا مجرد عبارات فمّية بإستخفاف؛ لكنه أمسك بالوصية وعاشها.
لذلك أنعم الله عليه بموهبة إلهامية باطنية وتسلم التقليد الملائكي؛ فأظهر مبررات الإيمان لا بالجدال لكن بالسلوك القائم على الإنجيل الحي. كذلك نُسكه لم يكن لنوال مجد أو مديح أو إشباع نفسي؛ لكنه ذبيحة حية مرضية أمام الله؛ تنمّ عن سَويّة عالية؛ جعلته يتحسس نبض الطهارة والجهاد الروحي؛ فصار سلوكه وسيرته (قانون حياة) ذات غرض مستقيم لا يتبدل ولا يتلوّن. وعندما زادت عليه حروب الشياطين الثقيلة لم ينظر إلى الوراء ولم يتشتت؛ لكنه كان موصولاً بتيار حياة مسيح البراري الذي أبطل حُجج العدو الشرير على جبل التجرية.
كان عزيزًا على نفسه أن يراها متوقفة عن النمو والصعود؛ لذلك اشتهى الاستشهاد بروح ناري؛ وكشف أقنعة ظلمة إبليس ورد سهامه؛ حتى صار عمودًا في طريق الجهاد وحَجَر معونة وعلامة لكل مَن يقتدي به؛ لأنه اقتدى بسيدنا وسيد كل أحد… وقد قيل عنه أنه كان يعزي الجميع ويتسع قلبه لكل مَن يئنّ ويتضايق؛ ويُريح التعابى والمكروبين؛ ويكفي النظر إلى وجهه… وقد عملت النعمة فيه عملها؛ يصنع الأشفية ومعرفة الأفكار والإعلانات والنبوات كرجل مطوَّب من الله.
كان القديس أنطونيوس مُطّلعًا على الفكر الآبائي السابق له؛ وعلى الفكر الفلسفي المعاصر لزمانه؛ وقد تعلم من الشيوخ الذين سبقوه والذين عاصروه؛ وإلتقى مع أنبا بولا أول السواح؛ ومع القديس مكاريوس الكبير؛ وكان صديقًا للعلّامة ديديموس الضرير؛ وَفيًا بالبابا أثناسيوس الرسولي. وقد تتلمذ على يديه القديس سرابيون أسقف تيمي الأمديد؛ والقديس أموناس؛ وغيرهم من آباء البرية النسّاك. بل مجرد سيرته كانت بركة لحياة القديس أغسطينوس أسقف هيبو. وهو أيضًا المرجع الأساسي للقديس يوحنا كاسيان في استلام مبادئ وقوانين الرهبنة الحقيقية على اعتبار أنه هو همزة وصل بين المسيحية في الشرق والغرب.
المعرفة عند القديس أنطونيوس هي أن (تعرف نفسك)؛ وجوهرها العقلي الروحي الخالد كصورة اللوغوس؛ للرجوع إلى ما هو أصيل فينا بالسعي للخلاص الشخصي، فالنفس إمّا أن تكون مذبحًا وذبيحة أو بيتًا للصّ مظلمًا مملوءًا حربًا، لذلك معرفته لنفسه جعلته متوازنًا؛ فلم يكن نحيلاً ولا مترهِّلاً؛ عارفًا الفضيلة؛ مدققًا ومُبصرًا الفخاخ المنصوبة على الأرض والتي لا يفلت منها إلا المتواضعون. كذلك كانت (معرفة الله) عنده هي معرفة تدابير الخالق وناموسه المغروس فينا؛ ومُلكه السماوي الراسخ والذي به وحده صلاحنا وشفاء جراحنا… وكانت (معرفته لزمانه) بالإنتباه لمعرفة الحالة الحاضرة والاتجاه الصحيح للبوصلة؛ لذلك نزل لخدمة المعترفين والشهداء؛ وكان شريكًا في الأَسْر وساند الكنيسة في زمن الاستشهاد وفي زمن هرطقة أريوس.
كذلك كتب للإمبراطور ودعم الكنيسة العامة وقت نفي القديس أثناسيوس؛ إذ كانت عنده دائمًا الإرادة حاضرة… كذلك (عرف عدوه) القتّال للناس والمتجوِّل في الأرض بأرواحه الخبيثة مع أراخنة الهواء؛ وكيف أنه لا يستثني أحدًا من حربه بالإغراءات والإلحاحات والشِكايات والخداعات والتصورات. لذلك توسّل قائلاً لا تُهملوا خلاصكم / لا تدعوا حياتكم الوقتية تحرمكم من الأبدية / ولا جسدكم اللحمي يُبعدكم عن مملكة النور/ ولا كراسي الأثيم تُفقدكم منازل الملكوت / لا تبيعوا أنفسكم بإختياركم للعدو الشرير / اطلبوا مجد السماء / اعملو عمل القديسين لأن الذين نموا بزيادة؛ مجدُهم بزيادة. وبالجملة فإن معرفته هي خبرة الروح في بُعديْها العاصف والهادئ والذي يهبّ حيث يشاء.
كان القديس أنطونيوس محاربًا راسخًا (يعرف ويفهم ويعمل) في وحدة المعرفة والحكمة الروحية؛ مهتمًا بالوقت لأن الحياة قصيرة إذا ما قيست بالأبدية؛ ولأن زماننا لا شيء أمام عظم المجد والمواعيد التي لا تُثمَّن… لذلك كان دائم الحماس؛ معتبرًا أنه لم يحقق شيئًا عظيمًا ولم يترك شيئًا مهمًا؛ مستعدًا لإرضاء سيده؛ ملتصقًا بروح الخلاص في وحدة النفس والجسد.
ركز القديس أنطونيوس على مبدأ الاستقامة في القلوب والسُبُل والحذر من الأعداء المروِّعين؛ لأنهم غاية في المكر والدهاء؛ وما أكثر عددهم في الهواء؛ لكنه في الوقت عينه كان يحتقر الشياطين ويثق أنهم ضعفاء؛ ولا يقووا إلا على مَن يتهاون بخلاص نفسه. أما هو فكان مميزًا للأرواح متعزيًا بالمخلص؛ تفزع منه الشياطين وتهرب… وسالمته وحوش البرية؛ بل وكان يجلد الشياطين الذين صرّوا عليه بأسنانهم؛ هازئين بأنفسهم لا به؛ بقوة إسم المخلص وبهروبه من الكرامة وتوكله على الله صائرًا تحت سلطان الروح.
وهكذا صارت سيرة العظيم أنطونيوس رائحة زكية للسيرة السماوية الشهية في مسامع الودعاء… وأقواله العَسَلية وسيرة حياته ترفعنا إلى فوق حيث الميراث المُعَدّ للمختارين. فكم من نفوس قرأت سيرته فتابت واشتعلت متقوية بمثاله… وكم لمست أقواله ورسائله فتائل مدخنة فأضاءتها واسترشدت بأشعتها على الدَرب؛ وقد أثمرت شجرة حياته ثمرًا طيبًا؛ وصَّير الجبال هياكل مقدسة عبر الزمان.