ثمّة فارق أساسيّ ما بين رواية بشارة مريم في الأناجيل وبشارتها في القرآن. فالقدّيس لوقا الإنجيليّ يختم روايته عن بشارة الملاك جبرائيل لمريم بقبولها بأن تلد يسوع الربّ “ابن العليّ”. فمريم حين سمعت دعوة الله إليها لم تتردّد ولو هنيهة واحدة، بل استجابت لهذه الدعوة الإلهيّة قائلةً: “ها أنا أمَة الربّ، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1، 38). جواب مريم ليس جبريًّا، بل هو نابع عن حرّيّة إنسانيّة مسؤولة. حرّيّة مريم مصونة حتّى أمام قدرة الله العليّ. هو لم يلزمها بولادة المسيح بل احترم الله حرّيّتها التي هو نفسه مَن وهبها إيّاها. انتظر الله من مريم أن تقول نعم، وقد كان بمقدورها أن تقول لا، فقالت نعم. هنا بدأت سيرة مريم مع القداسة.
أمّا في سورة مريم فلا يذكر القرآن ما كان جواب على الملاك حين بشّرها بـ”غلام ذكي” من لدن الله. وأمام مريم التي تساءلت “أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكن بغيًّا”، لم يجد الملاك ما يقوله لها سوى: “كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمرًا مقضيًّا” (مريم، 19-21). يغيب جواب مريم، ويحضر جواب الله بقوّة: “كان أمرًا مقضيًّا”، أي “كان خلقُ عيسى أمرًا مقدّرًا مقضيًّا به في الأزل، وفي علم الله تعالى”، وفق أحد المفسّرين.
هنا يكمن الفارق الأساسيّ ما بين النظرة الإنجيليّة والنظرة القرآنيّة لشخصيّة مريم وإرادتها الحرّة في قبول القول الإلهيّ أو في رفضه. ففيما يصمت القرآن عن جواب مريم، يعتبر الإنجيل أنّ جواب مريم يستحقّ أن يُذكر لأنّه جواب مركزيّ يعبّر عن طاعة مريم وقبولها بملء إرادتها وحرّيّتها تنفيذ المشيئة الإلهيّة. وبالوقت ذاته، جواب مريم يعبّر عن احترام الله لمخلوقاته وعدم إلزامها بشيء لا تريد الالتزام به.
لذلك فسّر التراث الآبائيّ الآية الكتابيّة القائلة: “خلق الله الإنسان على صورته ومثاله” (سفر التكوين 1، 26) بأنّ المقصود بالصورة ليس الصورة الجسميّة، بل الحرّيّة التي تميّز الإنسان عن سائر المخلوقات. الله بفائق محبّته للبشر وهب الإنسان صورته، أي الحرّيّة. وبرهان محبّة الله للإنسان لم يكن سوى هذه الحرّيّة السامية. غير أنّ الإنسان بهذه الحرّيّة ذاتها اختار أن يبتعد عن الله، الذي هو الخير الأسمى، فسقط في الشرّ. ولم يسلب الله هذه الحرّية من البشر بعد سقوطهم، على الرغم من خطاياهم، لأنّه بقي أمينًا على ما خلقهم عليه منذ إنشائه العنصر البشريّ على الأرض، بقي أمينًا على الحرّيّة المعطاة لهم.
حرّيّة آدم وحواء، اللذين يرمزان إلى كلّ كائن بشريّ، أدّت بالإنسان إلى الهلاك، لأنّها حرّيّة انحرفت عن المحبّة التي شاءها الله بين الإنسان وأخيه الإنسان. فباتت الحرّيّة تعني أن يعمل المرء ما يشتهيه وما تزيّنه له نفسه متوهّمًا أنّه يستطيع أن يكون هو بدوره إلهًا. أليس هذا بالضبط الإغواء الذي استعملته الأفعى، رمز الشرّ، عندما قالت لحواء: “إنّكما في يوم تأكلان (من الشجرة) تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ” (التكوين 3، 5).
أتت مريم، حواء الجديدة، لتعيد الحرّيّة إلى مسارها الصحيح. فمقابل حواء التي أرادت بمعصيتها الله أن تكون إلهة، قالت مريم: “أنا أمَة الربّ” وأطاعت كلمة الله. أمّا المفارقة فتكمن في سقوط مَن شاءت أن تكون إلهة، وفي سموّ مَن أقرّت أنّها “أمَة الربّ”. حواء الأولى كانت في الفردوس وسقطت، لم يحمِها كونها في الفردوس، أمّا مريم فكانت في العالم، ولم يمنعها كونها في العالم أن تصون نفسها من دنسه. من هنا نرى أنّ جواب مريم ليس سوى ردّ مباشر على تجاوب حواء مع الأفعى. لذلك كان أساسيًّا أن تكون مريم حرّة، كما كانت حواء حرّة، فكما أدّت حرّيّة الأولى إلى السقوط أدّت حرّيّة الثانية إلى الحياة.
جواب مريم “ها أنا أمَة الربّ، فليكن لي بحسب قولك”، هو الذي صنع هويّة مريم. جواب مريم هو مريم نفسها.
ليبانون فايلز