جاء في مقدمة الدستور اللبناني، المادة “ي”: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”. تشي القراءات المتكررة لهذا النص، بأن من كتبه أراد عملياً حماية التنوع واحترام خصوصيات المكونات اللبنانية المختلفة، التي قد يبادر أحدها في ظرف معين الى استغلال السلطة من أجل ضرب العيش المشترك.
هذا ما تعانيه بلدة دير ميماس الجنوبية التي تواجه هجمة غير مسبوقة على شراء أراضيها وعقاراتها، وهو ما يهدد نسيجها الاجتماعي وخصائصها المجتمعية، وهي البلدة التي اشتهرت بعلمانيتها والتزام قسم كبير من ابنائها جانب الاحزاب اليسارية، بما يسقط أي اتهام للبلدة بالطائفية في زمن الارهاب التكفيري والاصوليات المتشددة وقمع الرأي الآخر.
وبدأت المسألة بالتفاعل مع اجتماع “اللقاء التشاوري” الذي عقدته فاعليات البلدة في كنيسة الروم الارثوذكس في دير ميماس، وضم رجال دين ووجهاء ورؤساء بلديات سابقين وممثلي أحزاب وهيئات اجتماعية، تحت عنوان خصوصية دير ميماس وديمومتها وتلافي النتائج غير المرجوّة، وذلك لمعالجة الإشكال القائم على خلفية “عدم موافقة” البلدية على منح رخصة بناء لـمعن حلاوي من بلدة كفركلا على بعد أمتار قليلة من كنيسة الروم الكاثوليك في البلدة. لكن المشكلة ليست مع معن حلاوي تحديداً، بل مع وزارة الداخلية التي تجاوزت إرادة 3000 ناخب في دير ميماس، فوضوا أمرهم الى البلدية وانتخبوا مجلسها البلدي لتمثيلهم وإدارة شؤونهم، فإذا بوزارة الداخلية تمارس الضغوط وتصدر أوامر الى قائمقام مرجعيون وسام الحايك طالبة منه تجاوز البلدية ومجلسها والاصوات الثلاثة آلاف ورجال الدين والكهنة في دير ميماس، بهدف إعطاء الرخصة رغم رفض البلدية والبلدة.
وقد شكّل المجتمعون لجنة متابعة تضم رئيس البلدية وكهنة البلدة وفاعلياتها بهدف التواصل مع فاعليات كفركلا المجاورة وفي مقدمها الشيخ عباس فضل الله ورئيس بلديتها حسن شيت لشرح هواجس دير ميماس وحفظ خصوصياتها، ولقيت هذه المطالب كل تفّهم وايجابية لدى أبناء كفركلا، وتاليا لدى مالك العقار حلاوي الذي وعد ببيعه من أبناء دير ميماس صوناً للعيش المشترك واحتراماً لارادة الاهالي. لكن المشكلة أن وزارة الداخلية لم تقتنع، واستمرت في ممارسة الضغوط على قائمقام مرجعيون وسام الحايك غير آبهة بالتوتر الذي يتسبب به الامر وبمشاعر القهر والاحباط المتراكمة لدى أبناء دير ميماس الذين هالهم اتهامهم بالطائفية والعنصرية والمزايدات “الوطنية والعلمانية” من بعض مسؤولي وزارة الداخلية، بعد كل هذه السنين والتضحيات الجسام التي قدموها.
ويقول ناشطون في البلدة، إن رفض البلدية اعطاء رخصة البناء قرب الكنيسة يدخل في صلب مصلحة البلدة والحفاظ على نسيجها الاجتماعي وتراثها المسيحي المتناغم مع محيطها، وهي بلدة تفخر بخصوصيتها المسيحية المشرقية. لكن ما ليس مفهوماً (والكلام للناشطين) هو موقف وزارة الداخلية ومحافظة النبطية التي تتعامل مع البلدة بمنطق استعلائي لا يأخذ في الاعتبار تاريخ دير ميماس ونضالات ابنائها وسعيهم الى حفظ خصوصيتهم ضمن التعددية والتنوع في الجنوب. وفي رأي الناشطين أن إصدار أوامر مبرمة الى القائمقام الحايك بالتوقيع على رخصة البناء، يعني فتح الباب واسعاً امام نقل صلاحيات إعطاء رخص الاعمار من البلديات الى القائمقامين في كل لبنان، ويشكل سابقة خطرة جداً، لجهة فرض أمر واقع على كل بلديات القرى والبلدات المنتخبة شرعياً وبموجب القانون من مواطنيها، والتي ترفض إعطاء رخص اعمار تهدد خصوصياتها والتنوع من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب.
المهم في الامر، ان السلطة، اي سلطة، وجدت للتوفيق بين الناس وطمأنتهم وليس لاثارة المشاعر ونقض العيش المشترك، من خلال تجاوز دور البلديات المنتخبة وفرض قرارات فوقية عليها.
النهار