في كنيسة مار الياس- أنطلياس، ألقت الكنيسة المارونيّة النّظرة الأخيرة على رئيس مكتب راعويّة الشّبيبة في البطريركيّة المارونيّة، “حبيب الشّبيبة”، المونسنيور توفيق بو هدير، في صلاة جنائزيّة ترأّسها النّائب البطريركيّ المطران بيتر كرم ممثّلاً البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، عاونه فيها لفيف من المطارنة والكهنة بمشاركة ممثّلين عن بطاركة الطّوائف المسيحيّة، فيما خدمتها جوقة “يسوع فرحي” بمشاركة حشد كبير من الشّبيبة، بحضور شخصيّات رسميّة وسياسيّة وروحيّة وإعلاميّة.
بعد الإنجيل المقدّس، تلا كاهن رعيّة بصاليم مسقط رأس الرّاحل الخوري طوني الحاج موسى الرّقيم البطريركيّ وجاء فيه: “كالصّاعقة وقع على القلوب خبر وفاة المونسنيور توفيق في ختام يوم من النّشاطات كسائر الأيّام، كان آخرها عند المساء تمثيلنا في جامعة الرّوح القدس الكسليك في ندوةٍ أعجبته ورأى فيها إمكانيّة توظيف عددٍ من الشّبيبة، وعبّر عن ذلك في رسالة إلكترونيّة لأحد المقرّبين إليه، وهو في النّدوة.
كان همّه الشّبيبة الّتي “أحبّها حتّى النّهاية” (يو 13: 1)، فلقّب بـ”أبونا الشّبيبة”. إنّها ترى نفسها اليوم مكسورة الظّهر، وكخراف فقدت راعيها، وتمتزج دموعها بالصّلاة. الشّبيبة هنا تتحلّق حول جثمانه الطّاهر، وقلوبها مرتفعة إلى فوق تتخيّله في مجد السّماء، ينعم بالرّؤية السّعيدة، هو الّذي عاش الفرح وزرعه في القلوب. كلّهم هنا: معاونوه في مكتب راعويّة الشّبيبة ومكاتب الدّائرة البطريركيّة، ولجنة الإغاثة البطريركيّة “الكرمة”، ومتابعو برنامج التّنمية البشريّة والتّمكين في المركز البطريركيّ مار سركيس وباخوس ريفون، وتجمّع يسوع فرحي. إنّهم يتطلّعون إلى المستقبل الغامض المؤلم بعد غياب قائدهم ورائدهم، صاحب القلب الغنيّ بالحبّ والعطاء، والفكر الخلّاق، والإرادة الصّلبة في النّشاط من دون كلل. يقفون حيارى مذهولين، ونحن مثلهم لا نصدّق أنّ المونسنيور توفيق لن يكون موجودًا حسّيًّا بيننا. لكنّنا نؤمن أنّه حيّ بالمسيح، ويشفع بنا من سمائه.
وما القول عن والدته الثّكلى الّتي كانت ترى فيه سند إيمانها وعزاء حياتها ومحطّ آمالها. لا أحد يستطيع تصوّر مرارة سيف الألم الّذي يجتاز قلبها. إنّها كأمّ يسوع عند أقدام الصّليب، تسمع ابنها توفيق يقول لها مشيرًا إلى الشّبيبة: “هؤلاء هم أبناؤك” (راجع يو 19: 26).
العزيز المونسنيور توفيق ولد في بصاليم المتن العزيزة والجريحة في العمق. على يد الوالدين المرحوم ميشال وماغي اللّذين عرفناهما عن كسب تربّى أحسن تربية مسيحيّة مبنيّة على الإيمان والصّلاة والقيم الخلقيّة والإنسانيّة، مع شقيقيه: الإعلاميّ ماجد وباسم. وشدّته إليهما روابط المحبّة والمودّة الأخويّة، وبخاصّة إلى العزيز ماجد وعائلته فكانا يتعاونان في كلّ شيء، وكرفيقين وصديقين يتشاوران في كلّ الأمور. وأخلص العاطفة والاحترام لجدّته البالغة مئة سنة، ولأعمامه وعمّاته وخالاته وعائلاتهم، وهم بادلوه هذه العاطفة.
في هذا الجوّ العائليّ والمؤمن والمصلّي سمع الشّابّ توفيق النّداء الإلهيّ إلى الكهنوت وهو في الخامسة والعشرين من العمر، وكان قد أكمل اختصاصه الجامعيّ في إدارة الأعمال وبدأ العمل في أحد المصارف. قبلناه في أبرشيّة جبيل، وأرسلناه إلى المدرسة الإكليريكيّة البطريركيّة في غزير، ومن بعدها واصل دروسه الفلسفيّة واللّاهوتيّة في كلّيّة اللّاهوت الحبريّة في جامعة الرّوح القدس، ونال شهادة الإجازة في اللّاهوت. وفيما كان يتابع دروس السّنوات اللّاهوتيّة الثّلاث، انتسبت والدته إلى أحد المعاهد اللّاهوتيّة لترافق ابنها في العلوم الإلهيّة، وتصغي إلى مواعظه، وتعرب له عن مشاعرها ومشوراتها.
وما إن سيم كاهنًا في 30 أيلول 2000، ذكرى دخوله الإكليريكيّة، حتّى باشر خدمته الكهنوتيّة بغيرة وجهوزيّة وحبّ على مدى إحدى وعشرين سنة غنيّة بالعطاءات، محافظًا على شعاره الكهنوتيّ المأخوذ من شفيعته المحبّبة على قلبه القدّيسة تريز الطّفل يسوع: “بالحبّ أعطي كلّ شيء، وأعطي ذاتي”.
هكذا فعل في مهمّته كمرشد لشبيبة أبرشيّة جبيل سنة 2001. فكانت لقاءات الشّبيبة في الرّعايا، ولقاء الخميس الأسبوعيّ على سنسول ميناء جبيل، وجمعيّة شباب الرّجاء. وكذلك في خدمته لكلّ من رعايا حصرايل والمنصف وعين كفاع وغبالين ومستيتا ومار زخيا عمشيت. ثمّ كمدير لوقفيّة بيت الكاهن معاد، وقيّم عام لأبرشيّة جبيل، ومرشد لكثير من المنظّمات مثل العمل الرّعويّ الجامعيّ وكشّافة لبنان ومطعم المحبّة.
وإذ تفرّغ للعمل الرّسوليّ الاجتماعيّ، عيّنّاه منسّقًا لمكتب راعويّة الشّبيبة في الدّائرة البطريركيّة، ومديرًا للمركز البطريركيّ للتّنمية البشريّة والتّمكين في ريفون.
وخصّه الله بموهبة تنظيم الجماعات الشّبابيّة في مناسبات فريدة نذكر منها: زيارة ذخائر القدّيسة تريز في العام 2002، وزيارة قداسة البابا بندكتوس السّادس عشر عام 2012، والأيّام العالميّة للشّبيبة المارونية عام 2017، واللّقاء المسكونيّ العالميّ للشّبيبة مع جماعة Taizé عام 2019، و”كلّنا بيروت” لدعم المتضرّرين من انفجار بيروت في 4 آب 2020.
وتعاون مع مؤسّسة Youcat فأشرف على إصدارها باللّغة العربيّة فكانت Youcat التّعليم المسيحيّ للشّبيبة، وYoucat سرّ الاعتراف، وDocat تعليم الكنيسة الإجتماعيّ للشّبيبة.
وأحبّ من كلّ قلبه الفقراء والمعوّقين، فكانت سيّارته مليئة دائمًا بالمساعدات والهدايا للصّغار وللكبار، يوزّعها حيثما وجد مباشرةً أو بواسطة الغير، والابتسامة العريضة المحبّة على وجهه الوضّاء.
كان المرحوم المونسنيور توفيق على سباق مع الزّمن، ينام قليلاً ويعمل طويلاً، وفي عقله وقلبه مشاريع ومشاريع للشّبيبة. فأنجز في الأحدى وعشرين سنة من حياته الكهنوتيّة ما يعجز عن صنعه سواه في عشرات السّنين، إن قدر. فتتمّ فيه الكلمة الإلهيّة في سفر الحكمة: “بلغ الكمال في أيّام قليلة، فاستوفى سنين كثيرة. كانت نفسه مرضيّة عند الرّبّ، ولذلك أخرجه سريعًا من بين الشّرور” (حكمة 4: 13-14). وكما اعتاد أن يسمع كلام الله ويعمل به، كذلك قال في آخر لحظة: “تكلّم يا ربّ! فها أنذا” (لو 1: 38؛ 1 صموئيل 3: 15). دعوة العبور إلى بيت الآب كانت الكلمة الأخيرة الّتي سمعها، فعمل بها.
بالرّجاء نرافقه جميعًا بهذه الصّلاة، ونوفد إليكم سيادة أخينا المطران بيتر كرم نائبنا البطريركيّ السّامي الاحترام، ليرأسها باسمنا ويعرب لكم عن تعازينا الأبويّة الحارّة.
تغمّد الله روحه بوافر رحمته، وسكب على قلوبكم بلسم العزاء، وعوّض على الكنيسة والأبرشيّة بكهنة قدّيسين. المسيح قام”.
وبعد الصّلاة، منح النّائب ابراهيم كنعان، بإسم رئيس الجمهوريّة ميشال عون، المونسنيور الرّاحل وسام الاستحقاق الوطنيّ اللّبنانيّ البرونزي وقال بحسب “الوكالة الوطنيّة للإعلام”: “بكثير من الألم الّذي يوازي الذّهول، نجتمع اليوم، لوداع المونسنيور توفيق بو هدير. ولا يسعني إلّا أن أستذكر في قساوة اللّحظة، تلك العبارة- النّذر الواردة في سفر الرّؤيا: “وهوت من الماء نجمة كبيرة”.
أقول “النّذر”، لأنّ من جمعنا ما أراد لحياته الأرضيّة بيننا إلّا أن نكون نذرًا من نور، يدلّ إلى رحابة السّماء، الّتي شاءها موطنه الأصليّ، تاركًا في نفوسنا الكثير من لوعة الفراق الأرضيّ.
وفي ذلك النّور الّذي زرعه في عتمة وطننا، حمل إلينا فرح الإيمان الحقيقيّ، ذلك الّذي مرتكزه صخر، ومبتغاه الثّبات في القيامة.
ما عرفه أحد في حزن. وهو المدرك أنّ التّحدّي ليس في مواجهة الصّعاب، وهي جمّة، بل في تأكيد الغلبة عليها، بإسم من قال: “تعالوا إليّ أيّها المتعبون، وأنا أريحكم”.
وما أكثر المتعبين، الّذين أتوا اليه، فعلّمهم أنّ رجل الله الحقيقيّ ليس هو المنارة، ولا هو الميناء، بل القائم من الموت، العابر بنا إلى الحياة الأبديّة.
أيّها الفقيد الغالي، يا من زرعت في شبيبة لبنان الرّسوخ على قمم التّجلّي: من ساحة الصّرح البطريركيّ في بكركي، يوم اللّقاء التّاريخيّ مع قداسة الحبر الاعظم البابا بنديكتوس السّادس عشر، إلى ساحة الكوليزيه في روما يومذاك الجمعة العظيمة، حيث تلا ممثّلو شبيبة لبنان أمام قداسة البابا فرنسيس الصّلوات الخاصّة بدرب الصّليب الّتي وضعوها للمناسبة، ومن وادي قنّوبين يوم تحلّق حولك شباب لبنان المغترب، لتعرّفهم على جذور انتمائهم وهويّتهم، إلى قلب كلّ شابّ وصبيّة من لبنان والشّرق الأوسط، الّذين رأوا فيك المثال الأحقّ، فأصغوا إليك معلنين فرح إيمانهم بكنيستهم وبلبنان.
أيّها الفقيد الغالي، يا من اخترت الرّحيل بسكون الـ”نعم” المطلق للرّبّ، في ذكرى إعلان شفيعتك القدّيسة تريزيا الطّفل يسوع، معلّمة للكنيسة، لقد شرّفني فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، فكلّفني أن أمثّله في احتفال المرافقة المهيب هذا، وأن أضع على نعشك، باسمه، وسام الاستحقاق الوطنيّ اللّبنانيّ البرونزيّ. وبإسمه، أتقدّم من عائلتك الصّغرى، وعائلتك الكنسيّة الأكبر، ومن شبيبة لبنان والشّرق الأوسط عائلتك الكبرى الّتي شئتها هكذا، بأحرّ التّعازي.
كن أيّها الفقيد الغالي، من فوق، نورًا للبنان وكنيسته، فيبقى حضورنا بيننا بقاء إيماننا بلبنان- الرّسالة، على ما أراده القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، مثالك الأعلى”.
بعد ذلك تقبّلت العائلة التّعازي في صالون الكنيسة ثمّ نقل الجثمان إلى مثواه الأخير في بلدة بصاليم إلى مدافن العائلة.