هناك أمور نعرفها لأننا نفهمها. ينطبق هذا بشأن المعلومات الرياضية والعلمية وما سوى ذلك. ولكن هناك أمور نعرفها لأنها نختبرها. ولا يمكننا أن نعرفها حقًا إلا من خلال الاختبار: هذا شأن الحب، الصداقة، الألم، الجمال، إلخ… وهذا شأن الإيمان، الإيمان بيسوع المسيح.
بالعودة إلى التأمل الذي نشرناه سابقًا (راجع هذا الرابط)، كنا بدأنا الحديث عن تلميذي يوحنا اللذين تبعا يسوع. السؤال الأول الذي طرحاه على الرب كان: “رابي، أين تقيم؟”. الفعل المُستعمل في اليونانية “menein”، والذي يتم تكراره ثلاث مرات في هذا المقطع، له دلالة كبيرة في فكر يوحنا الرسول.
فالفعل يعبّر عن الضرورة الوجودية للتوقف، للتبحر، للتعمق، للتعرف والتعارف. يقول يسوع في يو 12، 26: “إن أراد أحد أن يخدمني، فليتبعني، وحيث أكون أنا يكون أيضًا خادمي” (يو 12، 26).
تتجذر التلمذة للمسيح في الصداقة، في اللقاء المعمق مع يسوع. لا يأتي من المعلومات، بل من اللقاء الذي يُحوّل الوجود، يأتي من “حفظ الأمور في القلب” مثلما كانت تفعل مريم دومًا، بحسب ما يذكرنا إنجيل لوقا.
يشرح الاختصاصي في دراسة إنجيل يوحنا، اللاهوتي رايموند براون أن “كلمات يسوع هذه هي سؤال يوجهه إلى كل من يتبعه: “ماذا تطلبون؟”. بهذه الكلمات، لا يريد يوحنا أن ينقل لنا الكلمات التافهة التي تسأل عن سبب مسيرهم وراء يسوع. هذا السؤال يتعلق بحاجة عميقة وجوهرية في الإنسان، تجعله يتوجه إلى الله، وجواب التلاميذ يبين لنا البعد اللاهوتي للسؤال. الإنسان يريد أن ’يقيم‘ (menein) مع الله: هو يبحث دومًا عن طريق للهر من الموت، من هشاشة التبدل المستمر، يبحث عن شيء أزلي ودائم”.
ذلك اللقاء، تلك “الإقامة” لا يمكن أن تكون انطواءً على الذات. فهي تفتح أبواب القلب على سخاء كبير، وتولّد لقاءات أخرى. فأندراوس يتحدث إلى أخيه سمعان عن ذلك اللقاء: “لقد وجدنا المسيح”. وسمعنا يضحي بطرس، الصخر، الركيزة.
وفي اليوم التالي يأتي دور فيليبس، الذي يتحدث إلى صديقه نثنائيل. هذه طبيعة الأمور الجميلة. نملك الأمور الجميل بقدر ما نشارك بها الآخرين. نملك حقًا ما قد وهبناه. القديس يوحنا بولس الثاني يعلمنا بأن “الإيمان ينمي بقدر ما ننقله إلى الآخرين”.
زينيت