أثار فيلم نوح للمخرج اليهودي دارين ارونوفسكي عاصفة من الإنتقادات والتعليقات الإيجابية والسلبية تراوحت بين نقيضين: شيطنة هذا الفيلم ومحتواه والبحث عن عناصر تثبت “المؤامرة” ضد التعليم الصحيح وبين تفهّمه ووضعه في إطار نصوص المدراش اليهودية. وقام جدال كبير بين المجموعتين.
لكل جماعة توقعاتها، فالمسيحيون البروتستانت أرادوه فيلماً أميناً للكتاب المقدّس ولكن العناصر الغريبة التي أضيفت على الفيلم كالمخلوقات الصخرية والعلاقة الإيجابية بين الملائكة الساقطين ونوح ومحاولة نوح قتل الأطفال وغيرها قد أساءت إليهم لأنها غير موجودة في الكتاب المقدّس وخاب أملهم. فالبروتستانت يؤمنون بال Sola Scriptura أي فقط الكتاب المقدّس وأي إضافة على الكتاب ليست من الله.
قوبل المسيحيون المتشدّدون والذين يعتمدون على النص الحرفي بانتقاد لموقفهم الرافض للفيلم من قبل عدة نقّاد الذين بدورهم أشادوا بالفيلم شارحين أن المخرج السينمائي قد اعتمد على الأدب المدراشي اليهودي وبالتالي يجب تفهّم المخرج.
ما هو الأدب المدراشي اليهودي؟
إنها تعليقات وتفسيرات يهودية لنصوص الكتاب المقدّس، تمّ جمعها وإعدادها بين سنة 400 م وسنة 1200م. وهذا ما يفسّر الرضى اليهودي الكبيرعلى الفيلم والذي جعل أحد الحاخامات إلياهو فينك يقول: “هذا الفيلم يهودي بامتياز”. قال ذلك بسبب العناصر المقتبسة من نصوص المدراش (مثلاً: قدوم الحيوانات بأنفسهم الى سفينة نوح). ولكن معظم الحاخامات أقرّوا أن فيلم نوح ليس بيبلياً. وقد انتقده الحاخام مارك جيلمان قائلاً: “صنع (المخرج) أرونوفسكي مدراشاً عصريّاً مظلماً يفهم الطوفان ولا يفهم السفينة… لم يكن مدراشاً جيّداً”. قال ذلك بسبب القراءة الخاطئة لقصة نوح. فالله أراد برحمته خلاص البشرية ولكن نوح (في الفيلم) فهم أن الله يريد فناء كل البشر، بالإضافة الى عائلته.
واحتدم النقاش بين أصحاب المدوّنات الخاصة المثقّفين على الإنترنت وخاصة بين المسيحيين براين واتسون وبيتر شاتاواي. فالأول اتّهم المخرج بأنه أضاف عناصر غنوصية وكابالية (جلد الحية التي استعملها نوح رمز الحكمة، ظهور آدم وحواء ككائنات منوّرة). والثاني أقرّ بالعناصر المقتبسة من الكابالية (تعاليم إيزوتيرية يهودية) ولكنه رفض تهمة الغنوصية.
وما زال النقاش يتفاعل بين المؤيّدين للفيلم وبين رافضيه ولكن السؤال الأساسي البسيط ما زال غائباً: هل هذا هو نوح في التقليد اليهودي-المسيحي أم لا؟
في الحملة الدعائية للفيلم نرى “نوح” يقول للأشرار: “أنا لست وحدي” فظننا لأول وهلة أنه يقصد أن الله معه ولكن حين مشاهدتنا الفيلم نراه يقصد أن الملائكة الساقطين معه وأنهم مستعدون للبطش.
يبدو للمشاهد أن الشرور بالنسبة للمخرج لم تكن الخطايا وعبادة الأوثان والفحش إنما المدّ السكاني واستغلال الموارد الطبيعية وأكل اللحوم.
في الجزء الثاني من الفيلم ينقلب نوح الى شخص مجرم يريد قتل الأطفال.
سكر نوح في نهاية الفيلم ليس بسبب مشاهد فناء البشرية بل بسبب عدم قدرته على قتل الأطفال.
نعم، قد يدهشك الفيلم ببعض مشاهده الجميلة (سقوط الملائكة من السماء كالنيازك) ومزجه بين العلم والدين (قراءة قصة الخلق مع صور التطوّر البيولوجي) ولكن تبقى الأسئلة الأساسية:
هل هذا هو نوح الذي أخبرنا عنه الكتاب المقدّس؟ بالطبع لا. وصف القديس بطرس في رسالته الثانية الفصل الثاني نوح بأنه كان كارزاً للبرّ. لم نره في الفيلم يدعو الناس للتوبة والبرّ. لم نره يحذّر الأشرار من الطوفان الآتي ولم يكن حريصاً على خلاصهم. عند الطوفان كان هناك المئات من الناس تحاول النجاة فسأله أبناؤه: “هل نرمي لهم حبل النجاة؟” فلم يجب بشيء. لا أعلم مدى تأثير هذا التصرّف على الأطفال.
هل هذه هي سفينة نوح التي ترمز الى الكنيسة؟ بالطبع لا. لم نجد في السفينة أثراً للفرح والسلام والمحبة بل مؤامرات ومحاولات قتل تجعل المشاهد يشمئزّ متمنياً إنتهاء الفيلم والعودة الى منزله.
هل العبرة من قصة نوح هو الابتعاد عن الشرّ والتجدّد، الصورة التي ترمز الى المعمودية؟ بالطبع لا. العبرة من الفيلم قالتها الممثلة إيما واتسون في النهاية: “نحن نعيش في عالم حيث لا يوجد خطأ أو صواب وأي خيار تقوم به هو الصواب.” عجباً، أليست هذه مبادئ تيار ال Pro-Choice في عصرنا أي حرية اختيار الإجهاض والقتل الرحيم و…و…و…؟
في النهاية لكل إنسان حرية مشاهدة الفيلم أو عدم مشاهدته ولكننا لا نستطيع أن نقول لأنفسنا ولأولادنا ولأبناء رعايانا أن هذه هي قصة نوح البيبلية.
قصة نوح الحقيقية نقرأها على ضوء الكنيسة ورسالتها (السفينة)، والمعمودية ومفاعيلها (الطوفان).