الجواب : نعم …
” لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ. ثُمَّ قَامَ قَوْمٌ وَشَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا قَائِلِينَ:
«نَحْنُ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنِّي أَنْقُضُ هذَا الْهَيْكَلَ الْمَصْنُوعَ بِالأَيَادِي، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِي آخَرَ غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِأَيَادٍ». (مرقس 14 : 56 – 58 )
نظرًا لطول الموضوع ، سأقوم بوضعه على أجزاء .
وُجه ليسوع الناصريّ اتهامان هما:
الاتهام الأول: “نحن سمعناه يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأيادٍ”. هذا الاتهام في حقيقته يحمل شهادة زور ، فإنه لم يقل ” إني انقض هذا الهيكل”، بل قال “انقضوا”، كما لم يقل: ” هذا الهيكل مصنوع بالأيادي” بل ” هذا الهيكل” ، إذ كان يتحدّث عن هيكل جسده . لقد فهموا الكلمات بغير معناها الحقيقي ، لكنّ هذه الشهادة على أي الأحوال بالرغم من بطلانها ، أكّدت حديثه عن موته وقيامته في اليوم الثالث ، فصارت ركيزة حيَّة للكرازة بعد قيامته .
الاتهام الثاني: حين أجاب يسوع على رئيس الكهنة الذي سأله : ” أأنت المسيح ابن المبارك ؟” ، ” قال يسوع : أنا هو ، وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة ، وآتيًا في سحاب ” ، لم يحتمل رئيس الكهنة الإجابة فمزّق ثيابه ، وقال: “ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم بالتجاديف” .
كان الاتهام الأول معتمدًا على شهادة زور ، أما الاتهام الثاني فاعتمد على ” جهل ” مطبق ، وعدم إدراك لكلمات يسوع نفسه . تعثر المجمع بالشهادة الأولى الخاصّة بهدم هيكل جسده وقيامته ، ولم يحتمل أن يسمع عن مجد ابن الله في السماء ومجيئه الأخير ، وحسبوا هذا تجديفًا يستوجب الموت . لعلّهم بالاتهام الأوّل حسبوه محطّمًا للناموس ، إذ يريد نقض الهيكل ، مقلّلًا من شأنه ، بقوله أنه مصنوع بالأيادي ، وبالاتهام الثاني حسبوه مجدفًا .
في الحقيقة نرى ، من خلال مضاعفات الإستجواب أمام السنهدريم ، أنّ شهودَ زور ٍ لفّقوا تهم ليسوع الناصريّ ! . من بين التهمة أعلاه (مسألة هدم وبناء هيكل ) ، هناك تهمة ” السحر ” ، ” التجديف ” ، ” الناموس ” . هنا سنرى فقط مسألة ” الهيكل ” . نرى أنّ ثمّة عدّة روايات للقول الذي يذيع دمار الهيكل ( مر 14 : 58 ، 15 : 29 ، والآيات الموازية تباعـًا في متى ، يو 2 : 19 ، أع 6 : 14 .
هناكَ موازاة ، على صعيد الموضوع ، يقرأها المرء في (مر 13 : 2 ) ، في وسط الإعلان عن دمار الهيكل ، المعبّر عنه من خلال قضيّة كتابيّة ويهوديّة معروفة جدّا ، وهي أنه لن يترك ” حجر على حجر ” . وهناك تقاليد أخرى تعلن أفعالا في المستقبل لها صلة بالهيكل : لو 13 : 34 – 35 ) .
لنستشهد بالمؤرّخ فيلافيوس يوسيفوس لكي نرى الأهميّة الفائقة للهيكل بالنسبة إلى الضمير اليهوديّ : ” أيُستبدل الدستور بجملته ؟ هل أجمل منه وأكثر منه عدلا دستور ينسب إلى الله حكم الدولة برمّتها ، ويكلّف الكهنة أن يسوسوا باسم الجميع أشدّ القضايا أهميّة ، ويوكل إلى رئيس الكهنة بدوره الإشراف على سائر الكهنة ؟ وهؤلاء الرجال .. قد فوّض إليهم أن يقيموا أصلا العبادة الإلهيّة . والحال أنّ هذه العبادة كانت السهر الشديد أيضا على الناموس وسائر المهامّ . أجل ، تسلّم الكهنة رسالتهم بأن يسهروا على المواطنين جميعـا ، وأن يقضوا في الاعتراضات ، ويعاقبوا المحكوم عليهم ” .
ويعلّق البروفيسور جاك شلوسّر ويقول : إنّ التصرّف الذي جرى في الهيكل ضدّ بائعي الحيوانات والصيارفة (مر 11 : 15 – 17 ) ، لم يكن محاولة ” تطهير ” ، أي مسعىً لإصلاح العبادة من خلال إزالة الفساد ؛ ذلك أنّ الاستشهاد الصريح بـ أش 56 : 7 ، الذي يمكنه أن يسير بالقراءة حسب هذا المعنى ، قلّما يمكن الركون إليه كعنصر أوّليّ ؛ ذلك أنّ عمل العبادة والصيارفة كانت تتطلبه الممارسة المعتادة ، ويرعاه الكتاب والتقليد ، في العبادة اليهوديّة . إنه من غير المعهود ، في العالم القديم ، أن يتحوّل هيكل إلى مصلّى وحسب . وبالعكس ، لا يمكن الإعتقاد بأنّ يسوع وزمرته شنّوا هجومـــًا على الهيكل وهم يضربون بأيديهم ضرب إرهابيّين !
لا يحتلّ الهيكل ، بصورة عامّة ، موقعا ذا أهميّة كبرى في ما تبقّى من كرازة يسوع . ليس هو ، في ظاهر الحال ، المرجع المعتمد عندما يُراد الإلتقاء بالله ، وبَسطُ الخلاص ومغفرة الذنوب ، فالموقع قدّ حلّ محلّه ملكوت الله ، الذي هو يسوع ذاته . فمقولة ” ها هنا أعظم من الهيكل ” (متى 12 : 6 ) ، جديرةٌ بالذكر في ما نقوله .
بحسب ما جاء في أعمال الرسل أيضا ، كانت التهمة نفسها قد وُجّهت إلى اسطفانوس ، الذي علّق ثانية على نبوءة يسوع عن الهيكل ، ممّا تسبّب برجمه ، إذ عدّ ذلك تجديفــًا . وهنا ، في دعوى يسوع ، تقدّم شهود ليعيدوا ما قاله يسوع . لكنّ إفاداتهم لم تكن متطابقة ، فكان من الصعب توضيح ما قاله يسوع حقيقة . إنّ إسقاطَ هذا الإتّهام في نهاية الأمر دليل على سعيهم إقامة دعوة صحيحة قانونيّا . ويقول القدّيس جيروم : إنّ شهادة الزور تحرّف معنى الحقيقة .
كلّنا يعلمُ ، أنّ يسوع الناصريّ قصدَ بقوله ” أنقضوا ” ، ” هيكلَ جسده ” ، والبناء في ثلاثة أيّام تعني ” قيامته في اليوم الثالث ” . والجميع متّفق على ذلك .
الآن سندخُل في التفاصيل الضروريّة لمعرفة عمق هذا الكلام . نسأل أوّلا : هل هذا الكلام تاريخيّ ؟
هناك نقّاد اعتبروا من غير المعقول أن يتلفّظ يسوع بكلام بهذا المستوى من العنف . ما معنى أنه يهدم هيكل أورشليم ؟ من المعروف أنّ يسوع الناصريّ ليس رجلا خارقا (سوبر مان ) ، أو ساحـــرًا يضحكُ على العالم ! حاشا له . لا نتّفق مع النقّاد ، لأن كلام الإنجيل له ما يثبته التقليد (تقليد العهد الجديد ) ، وإن بصيغ تختلف قليلا ، ليس في نصوص مرقس ومتى المثبتة هنا وحسب ، وإنما في مقاطع أخرى من الإنجيل : عند أقدام الصليب ، نرى عابري السبيل يشتمون يسوع ، وهم يهزّون رؤوسهم قائلين : ها ها ! أنت يا مَن تنقض الهيكل وتبنيه في ثلاثة ايّام ، خلّص نفسك بنفسك وانزل عن الصليب ” (مر 15 : 29 ، ومتى 27 : 40 ) . ويسوع في بدء رسالته ، بحسب يوحنّا ، حين طرد باعة الهيكل ، تدخّل اليهود وقالوا له : ” أيّ آية ترينا حتى تعمل هذه الأعمال ؟ ” أجابهم يسوع : ” انقضوا هذا الهيكل ، أقمه في ثلاثة أيّام ” (يو 2 : 19 ، راجع أيضا : أعمال الرسل 6 : 14 ) . هذه الشهادات المختلفة تؤكد لنا تاريخيّة كلام يسوع .
ليس المقصود هنا الهدم فقط ، بل البناء أيضا . فهناك ، بالإضافة إلى السلبيّة ، نرى الإيجابيّة . ويسوع ، في خطابه الأواخريّ (مر 13 ، متى 24 ، لو 21 ) ، ينبئ بأن أورشليم ستُسلب والهيكل سيُدمّر . وفي يوم الشعاني سبق يسوع وبكى على المدينة وأنبأ بخرابها . إلاّ أنه يتحدث أيضا عن ” البناء ” ، ويعني بذلك أنه ، بعد العقاب الذي أراده الله ، سيتمّ تجديد ، لا بل سيكون هيكل ” لم تصنعه الأيدي ” ، أي عبادة جديدة ، وفجر دينيّ جديد . (بعيد عن السطحيّات والعبادات الشكليّة والمرائية ) .
يقول الأب بيير بنوا الدومنيكيّ ، أنه كانت هناك أوساطٌ يهوديّة متطوّرة ذات روحانيّة عميقة تحلم بمستقبل دينيّ أفضل ، وتنتظر اليوم الذي فيه يختفي الهيكل ” بخشونته ” ، ليدع المكان ، في الزمن الأخير ، لهيكل جديد ، سماويّ وروحيّ . ولقد كان يهود قمران بنوع خاصّ – وقد عُثر على مخطوطاتهم بالقرب من البحر الميّت – ينتظرون هذا التجدّد ، ويعتبرون جماعتهم بمثابة هيكل . ذلك أنّ مؤمني قمران ثاروا ضدّ كهنوت أورشليم ، إذ شكّكتهم رؤية الروح الدينيّة البائسة لدى الأسر الكبرى التي كانت تشرف على العبادة ، مع أنها لم تكن من نسل هارون الطاهر . لقد هرب هؤلاء الكهنة العصاميّون والأتقياء والمتعصّبون في آن واحد ، إلى البريّة ، تاركين الهيكل الحقيقيّ ، ” قداس الأقداس ” ، الهيكل الروحيّ الحيّ ، ولم تكن غريبة ، في مناخ ذلك العصر ، فكرة هيكل جديد يأخذ مكان الهيكل الحاليّ .
هكذا ، كان بإمكان يسوع أن يُطلق ، هو ذاته ، فكرة مماثلة بشأن خدمته ورسالته . ولقد كانت ، في المسيحيّة الناشئة ، تيّارات ، يمثّلها اسطفانس والهللينيون والقديس بولس ، ادركت بأن النظام القديم محكومٌ عليه بالإنقراض ، وأن لا بد للهيكل أن يزول .
معنى كلام يسوع ..
الأكثر أهميّة الآن هو : ” في ثلاثة أيّام ” ! . لفهم عمق فكرة يسوع ، يجب ربطها بأقوال ٍ أخرى من الكتاب المقدّس ، بدءًا بأقوال يسوع ذاته التي توحي بأنه آت ٍ بتجدّد . فحين شاءت السامريّة أن تحرجه بإقامة التضادّ بين العبادة على جبل جرزيم ، والعبادة في أورشليم ؛ أجاب يسوع : ” تأتي ساعة فيها تعبدوم الآب ، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم .. ولكن تأتي ساعة – وقد حضرت الآن – فيها العبّاد الحقيقيون يعبدون بالروح والحقّ (يوحنا 14 ) . يعلن يسوع ، عن عبادة حقيقيّة عميقة لن تكون رهن المتغيّرات الأرضيّة . ويمكن ربط فكرة ” جسد يسوع بصفته الهيكل الجديد ” ، بمواضيع من العهد القديم . بحسب حزقيال ، كان الله ذاته قد أصبحَ ، إبان الجلاء ، بمثابة المقدس للمؤمنين (حز 11 : 16 ) . ويُرجّع سفر الرؤيا صدى حزقيال حين يؤكّد بأنّ الله والحَمَل سيكونان هيكل أورشليم السماويّة (رؤيا 21 : 22 ) . ونرى أيضا في يوئيل وزكريّا ، بشّروا بأنّ الهيكل الأواخريّ سيفجّر ينبوع ماء حيّ – ويا لها من ثورة لأرض فلسطين شبه الصحراويّة ! فيصبح نهرًا ، إذ بعد ألف ذراع ٍ تبلغ بهم المياه إلى الركبتين ، وبعد ألف ذراع أخرى تبلغ إلى الصدر . ومن هذا الماء العجائبيّ والطافح تتفجّر الحياة ( حز 47 : 1 – 12 ، يوئيل 4 : 18 ، زك 13 : 1 ، و 14 : 8 ) .
يستذكر يسوع هذه النبوءات ، كما يذكر الصخرة التي منها أخرج موسى الماء في البريّة ، معلنــــــًا بأنّ من جوفه ستجري أنهارُ ماء الحياة . وتلك أيضا طريقة اختارها ليماثل بين شخصه والمقدس ، بينه وبين الهيكل الجديد .
” فإن تُنسَب إلى يسوع نوايا عنيفة ، ضد المقدس ، فتلك هي شهادة الزور .. يرى يسوع أنّ خطايا البشر ستؤدّي إلى خراب الهيكل ، وهو بدوره ، لم يشأ الخراب ، لكنّه سيتدخّل من أجل إعادة البناء “.
بقلم عدي توما / زينيت