أصدر المجمع الفاتيكانيّ، في 28 تشرين الأوّل 1965، تصريحًا “حول علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحيّة” (الوثائق المجمعيّة، منشورات المطبعة الكاثوليكيّة، الجزء الثاني، ص 391)، أقرّت فيه ما يأتي: “وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد، الحيّ، القيّوم، الرحيم، الضابط الكلّ، الخالق السماء والأرض، المكلّم البشر (…) ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقيّة، ويؤدّون العبادة لله لا سيّما بالصلاة والزكاة والصوم”.
كما أقرّت الكنيسة الكاثوليكيّة، في وثيقة أخرى من المجمع ذاته، بأنّ المسلمين “يعبدون معنا الله الواحد، الرحمن الرحيم الذي يدين الناس في اليوم الآخر” (الدستور العقائديّ في الكنيسة – نور العالم، 21 تشرين الثاني 1964). هذا الموقف الرسميّ للكنيسة الكاثوليكيّة ملزم لأتباعها بما للمجمع المسكونيّ من سلطة و”لا رجوع ممكن عنه”، كما تقول جولييت حدّاد في كتابها “البيانات المسيحيّة الإسلاميّة المشتركة” (دار المشرق، ص 28). والكنيسة الأرثوذكسيّة في أنطاكية وسائر المشرق، وإن كانت لم تُصدر وثائق رسميّة في هذا الشأن، يتبنّى معظم لاهوتييها آراء متقاربة مع هذا الموقف العقائديّ الفاتيكانيّ، ولنا في كتابات البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم والمطران جورج خضر وسواهما ما يؤكّد كلامنا.
هذا الاعتراف الفاتيكانيّ لم يكتفِ بالشأن العقائديّ، بل اقترح خطوات عمليّة لتفعيل التلاقي بين أبناء الديانتين والعمل معًا من أجل خير الإنسان وعمران الأرض. فالوثيقة ذاتها تدعو إلى تطوير العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة والابتعاد عن الصراعات والحروب التي جرت عبر التاريخ، فتقول: “وإذا كانت قد نشأت، على مرّ القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي، وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعزّزوا معًا العدالة الاجتماعيّة والخيور الأخلاقيّة والسلام والحرّيّة لفائدة جميع الناس”.
في الذكرى الخمسين لهذا التصريح، يطرح السؤال نفسه: أين نحن، في هذا الشرق الدامي، من هذا الكلام الواعد بزمن يسوده السلام والعدالة الاجتماعيّة والحرّيّة؟ أمّا الجواب على هذا السؤال فيأتي تلقائيًّا بأنّنا عوضَ أن “نتناسى الماضي” فنتقدّم خطوات نحو تحقيق هذه الأهداف النبيلة لخير الإنسان، عدنا قرونًا إلى الماضي الحافل بالحروب باسم الإله والأنبياء والشرائع والرموز المقدّسة.
فبعد أن صار مألوفًا، في اللاهوت المسيحيّ المعاصر، الإقرار بأنّ المسيحيّين والمسلمين يعبدون الإله نفسه، إله الإبراهيميّة التوحيديّة، وإن اختلفت طرق التعبير عن هذا الإيمان باختلاف النظم العقائديّة في كلا الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة ومذاهبهما، بات من العسير لدى عامّة المسيحيّين القبول بهذا الإقرار. فكيف، في ظلّ هذا العنف المتسربل بالدين والمذهبيّة، هذا العنف العبثيّ باسم الإله الواحد، يمكن الإقرار بأنّ جميع الناس يؤمنون بإله واحد؟
ويسعنا أن نتساءل، في المقابل، أين نحن من إقرار بعض المرجعيّات الإسلاميّة بالإيمان التوحيديّ المسيحيّ، ومنهم السيّد محمّد حسين فضل الله الذي يقول: “ليس معنى أنّ القرآن عندما يقول عن أهل الكتاب إنّهم كافرون، أنّه الكفر الذي يُخرجهم عن الإيمان بالله وعن توحيده، ولكن معناه الكفر بالرسول”، ولأنّ “الكفر نسبيّ”، وفق كلامه، فكفر المسيحيّين برسالة نبيّ الإسلام لا يمنعهم من الالتقاء بالمسلمين في توحيد الله والإيمان به؟ فإذا كان التكفير هو السائد في أيّامنا، حتّى ما بين المسلمين أنفسهم، فكيف ينتظر المسيحيّون إقرارًا إسلاميًّا بصحّة إيمانهم التوحيديّ؟
لا شكّ أنّ هذه الدعوة إلى تناسي الماضي والسعي إلى العدالة الاجتماعيّة والاحترام المتبادل والسلام والحرّيّة أضحت وهمًا وسرابًا. وعلى الرغم من هذه الأزمة التي تبدو مستعصية لا بدّ من الإصرار على إعادة ترميم العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة على أسس جديدة تقوم على تنزيه الأديان والمذاهب عن الاستغلال في الصراعات السياسيّة والفتن المتنقّلة هنا وثمّة. فالناس ما عاد يعنيها كثيرًا إن كان شريكها في الوطن يؤمن بالإله الواحد أم لا، بقدر ما يعنيها أن تحيا بسلام وأمان بملء حرّيّتها وكرامتها الإنسانيّة.
ليبانون فايلز