“أوَما تعلمون أنّكم هيكلٌ لله، وأنّ روح الله يسكن فيكم؟ مَن أفسد هيكل الله أفسده الله، لأنّ هيكل الله مقدّس، وهذا الهيكل هو أنتم” (رسالة القدّيس بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 3، 16-17).
هجر الله هيكل أورشليم. هجر هذا السجن المسمّى الهيكل. سئم الله السكنى في هيكل من حجارة باردة أو في أوراق جافّة لا حياة فيها. اختار أن يسكن في اللحم والدم، في الإنسان الذي خلقه “على صورته ومثاله”. وبـ”كلمة الله (الذي) صار جسدًا وسكن فينا” بدأ عهد جديد بين الله والإنسان، عهد القربى باللحم والدم.
لو كانت شريعة الهيكل كافية لأن يحيا الإنسان مع الله، لما كان ضروريًّا أن يصير ابن الله، يسوع المسيح، إنسانًا. فبصيرورته إنسانًا أبطل يسوع وظيفة الهيكل الأوّل لأنّه هو نفسه صار الهيكل الجديد. وهذا ما يؤكّده القدّيس يوحنّا الإنجيليّ حين يتحدّث بوضوح عن انتهاء حصريّة العبادة في هيكل أورشليم، ذلك أنّ يسوع نفسه هو “الهيكل” الجديد، وحيث المسيح هناك الهيكل. فعندما طلب اليهود إلى يسوع آيةً، أجابهم بقوله: “اهدموا هذا الهيكل، وأنا أبنيه في ثلاثة أيّام (…) وكان يسوع يعني بالهيكل جسده. فلمّا قام من بين الأموات تذكّر تلاميذه هذا الكلام” (يوحنّا 2، 18-22).
صار ابن الله هيكلاً حيًّا من لحم ودم، كي يصير كلّ إنسان هيكلاً لله. القدّيس بولس، الرسول الإلهيّ، والتراث المسيحيّ الحيّ من بعده، يعتبر أنّ كلّ ما كان عليه المسيح بالطبيعة يصبح عليه الإنسان بالنعمة. المسيح هو الهيكل الحقيقيّ، وعبره يصبح كلّ إنسان هيكلاً مقدّسًا على صورته ومثاله. في المسيح بدأ الخلق الجديد، أتى ليجدّد ما كان منسيًّا وما كان مهمَلاً.
بيد أنّ روح الله يسكن، منذ بدء الخليقة، في الإنسان، حيث تؤكّد رواية خلق الإنسان أنّ الربّ الإله “جبل الإنسان ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسًا حيّةً” (سِفر تكوين 2، 7). أمّا التراث الإسلاميّ فيقرّ بأنّ الله خلق الإنسان من طين “ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه” (سورة السجدة، 9). هذه النفخة هي الروح التي ميّز الله بها الإنسان عن المخلوقات الأخرى، إذ خصّه وحده بها. هي الحضور الإلهيّ، قبل ظهور الديانات وتفرّق الناس ما بينها، في الإنسان المخلوق على “صورة الله ومثاله” (التكوين 1، 26).
يثور الناس، هنا وثمّة، ضدّ الاعتداءات على الكنائس والمساجد، من حيث هي هياكل مقدّسة لله. هذه الغيرة محمودة وممدوحة. لكن ليتهم يثورون ضدّ الاعتداءات التي يذهب ضحيّتها هياكل مقدّسة لله حيّة من لحم ودم. آلاف الهياكل البشريّة التي تحرّكها النفخة الإلهيّة الساكنة فيها ينزعها مَن هم مدعوّون، مثلهم مثل ضحاياهم، لأن يكونوا هياكل إلهيّة، لكنّهم فضّلوا أن يهجرهم هذا الروح.
الإنسان أسمى مخلوقات الله لأنّ فيه تسكن النفخة الإلهيّة، فيه يسكن الروح الإلهيّ. فكلّ مَن يعبث بحياة هذا الإنسان إنّما هو يعتدي على روح الله الساكن فيه. هو يعتدي على الله نفسه، الله الذي “يمهل ولا يهمل”.
الأب جورج مسّوح
ليبانون فايلز