I. الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة
هي تلك الكنائس المتّحدة بصورة كاملة مع الكرسيّ الرّسوليّ. بيد أنّ هذا الاتّحادلا يعني أبدا التّخلّي عن الفكر اللاهوتيّ المشرقيّ، والطّقس الليتورجيّ، والتّراث العريق، والتّقاليد القديمة، والثّقافة الخاصّة بتلك الكنائس، بل تتميم مشيئة الله بأن نكون واحدا.
تتمايز الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة والكنيسة اللاتينيّة في ما بينها، من خلال طقوسها وأنظمتها الكنسيّة وتراثها الرّوحيّ فقط، لكنها تخضع جميعها لسلطة الحبر الرّومانيّ الرّعويّة، نائب السّيّد المسيح على الأرض، وخليفة القديس بطرس في الأولويّة على الكنيسة الجامعة. وهي تتمتّع بكرامة متساوية، بحيث أنّه ليس لواحدة منها أن تتقدّم على الأخرى بسبب طقسها، بل تنعم بالحقوق عينها، وعليها الواجبات ذاتها.
تتفرّع الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة من خمسة تقاليد كبيرة: التّقليد القسطنطينيّ والاسكندريّ والإنطاكيّ والأرمنيّ والكلدانيّ.
ثمّة أكثر من عشرين كنيسة شرقيّة كاثوليكيّة في العالم اليوم، أهمّها الكنائس البطريركيّة: كالكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة في مصر، والسّريانيّة الكاثوليكيّة والسّريانيّة المارونيّة، والملكيّة، والكلدانيّة والأرمنيّة الكاثوليكيّة، كما أنّ هناك كنائس تابعة لرؤساء الأساقفة الكبار، كالكنيسة الأوكرانيّة والسّيرو-ملاباريّة، والسّيرو-ملنكاريّة في الهند، والكنيسة الرّومانيّة والإيطالو-كلابريّة في جنوب إيطاليا وهي ذات تقليد بيزنطيّ… إنّه حقّا “لتنوّع عجيب عرف به الله أن يصنع من حجيرات مختلفة فسيفساء هكذا جميلة ومتنوّعة”، على ما قاله البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني في رسالته الرّسوليّة نور الشّرق[1].
II. المؤسّسة البطريركيّة
من أجل فهم جوهر العلاقة بين الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة والكرسيّ الرّسوليّ فهما صحيحا، ينبغي التّوقّفَ أمام أهمّية ما أسمته وثيقة “الكنائس الشّرقيّة” بالمؤسّسة البطريركيّة القائمة في الكنيسة منذ العصور القديمة. هذا ما تبنّته أيضا، بل ردّدت صداه مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة حين ذكرت وذكّرت أنّ المؤسّسة البطريركيّة قائمة في الكنيسة بحسب تقليد كنسيّ موغل في القدم اعترفت به المجامع المسكونيّة الأولى (ق. 55)[2]. يستنتج من يستقرئ التّاريخ الكنسيّ الطّويل، أنّ في القرن الميلاديّ الأوّل قام رسل السّيّد المسيح -بإلهام من الرّوح القدس- بتأسيس الجماعات المسيحيّة الأولى، متولّين إدارتها بأنفسهم إلى جانب مجلس من “تلاميذهم”؛ وقد برزت عبارة “أسقف” Episcopos قبل بدأ القرن الثّاني، إذ وردت في رسائل القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ بمعنى “الحارس” أو “المراقب”[3]، أي حارس كرم الرّبّ والسّاهر على قطيعه؛ وهو بالتّالي الرّجل الذي يعنى بالمؤمنين[4].
ومع تعدّد “التّجمّعات الكنسيّة” ولدت فكرة “المتروبوليت الكبير” لإدارة شؤون الأبرشيّة، وقد عرف أيضا باسم إكسرخوس Exarchus (ليس بمفهومه القانونيّ الحاليّ). غير أنّ بعض الكنائس في مرحلة ما بعد الرّسل، قد تمتّعت بامتيازات خاصّة، بسبب أصولها الرّسوليّة، أو نظرا لأهمّيّتها التّاريخيّة أو المدنيّة أو السّياسيّة[5]؛ إلى أن مُنح أساقفة الاسكندريّة وروما وأنطاكية ونواح أخرى في مجمع نيقيا الأوّل (325) اعتبارا كنسيّا أهمّ من وظيفة المتروبوليت والأسقف العاديّ[6]، بحسب ما ورد في القانون السّادس، من أعمال المجمع المذكور:
“…فليحافظ على العرف القديم المُتّبَع في مصر وليبيا والمدن الخمس؛ وليُمنَح أسقف الإسكندريّة سلطانا على كلّ تلك المقاطعات، كما العرف القائم بالنّسبة إلى أسقف روما. وكذلك في أنطاكية والنّواحي الأخرى، فلتُحفَظ للكنيسة امتيازاتها”[7]. ثمّ ظهرت عبارة “بطريرك” في المصطلحات القانونيّة القديمة للمرّة الأولى مع الامبراطور تيودوسيوس الثّاني (401-450)، في كتابه “الحوليّات” 109 و 129، إلى أن اتّخذت طابعا مؤسّستيّا مع الامبراطور يوستينيانوس الأوّل (526-565)، في كتابه “الحوليّات” 123، الذي كرّس الكراسي المشار إليها للهرميّات الكنسيّة[8]. فمُنح بذلك أساقفة الكراسي الخمس الكبرى (روما، القسطنطينيّة، الاسكندريّة، أنطاكية وأورشليم)، لقب “بطريرك”[9].
تقوم المؤسّسة البطريركيّة إذاً، بصورة خاصّة، على هرميّة كنسيّة محلّية يرأسها البطريرك الشّرقيّ، وهو بحسب نصّ القرار “الكنائس الشّرقيّة” أسقف له حقّ الولاية على كلّ الأساقفة، بما فيهم رؤساء الأساقفة، وعلى الإكليروس والمؤمنين في ولايته أو كنيسته مع “المحافظة دائما على سلامة أولويّة الحبر الرّومانيّ” (ك ش 7). إنّ النّصّ المجمعي بوصفه العامّ للسّلطة البطريركيّة يعترف بحقوق كبيرة وواسعة للبطريرك قد حجبت عنه بعضَها فيما بعد مجموعةُ قوانين الكنائس الشّرقيّة.
وعليه، يدعو النّصّ إلى واجب إحاطة بطاركة الكنائس الشّرقيّة بإكرام خاصّ، لأنهم يرأسون بطريركياتهم الخاصّة كآباء ورؤساء. إنّ عبارة “الأب والرّأس” جميلة جدّا، وقد وردت للمرّة الأولى في قانون 216 § 1، من “الإرادة الرّسوليّة” Cleri sanctitati. كما يُعتبر السّلطان البطريركيّ وحدة متآلفة ومتكاملة تشمل سلطان الدّرجة الذي يُمنح بفعل السّيامة المقدّسة Ordinatio in sacris، وسلطان الولاية Potestas iurisdictionis الذي يهدف إلى تقديس شعب الله في الكنيسة، “مجتمع المؤمنين” Societas fidelium. وقد استفاضت القوانين الكنسيّة المرعيّة الإجراء بالحديث عن البطريرك ومجلس الأساقفة وبتحديد صلاحيّاتهم وحقوقهم وواجباتهم.
[1] يوحنّا بولس الثّاني، نور الشّرق Orientale Lumen، رسالة رسوليّة، منشورات اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، جلّ الدّيب لبنان، د.ت.، رقم 5.
[2] سنستعمل في سياق البحث المصطلح (ق.) للدّلالة على مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة.
[3] Cf. M. Maccarrone, Lo sviluppo dell’idea dell’episcopato nel II secolo e la formazione del Simbolo della cattedra episcopale, Milano 1970, p. 11.
[4] Cf. SACRA CONGREGAZIONE ORIENTALE, Codificazione Canonica Orientale, (a.c.d.) P. Hindo, Fonti, Disciplina Antiochena Antica, Les Personnes, Serie 11, fasc. XXVII, Città del Vaticano 1951, p. 168.
[5] Cf. V. Parlato, L’Ufficio patriarcale nelle Chiese Orientali dal IV al X secolo, Padova 1969, p. 11.
[6] Cf. Nuntia, 22 (1986) 43.
[7] Cf. Conciliorum Oecumenicorum Decreta (COD), a cura di G. Alberigo – G. L. Dossetti- P. P. Joannou- C. Leonardi – P. Prodi, dell’Istituto per le scienze religiose, EDB, Boglogna1996. C. 6, pp. 8-9.
[8] Cf. D. Salachas, Il Diritto Canonico delle Chiese Orientali nel primo millennio, EDB, Bolgogna-Roma, 1997, p. 65.
[9] Cf. D. Salachas, Istituzioni di Diritto Canonico delle Chiese Cattoliche Orientali, EDB, Roma-Bologna, 1993, p. 144.