في وقت يستعدّ المسيحيّون عموماً، والسريان والأرمن خصوصاً، لإحياء الذكرى المئوية للمجازر الأرمنية والسريانية، تنحَرف الحرب السوريّة والعراقية الى ما هو أبشع من حربٍ أهلية أو نزاعٍ بين متقاتلين، لتَصلَ الى مرحلة مَحوِ حضارات مسيحيّة بأكملها، شكّلت الركنَ الأساس للمسيحيّة المشرقيّة والعالميّة، خصوصاً بعد مهاجمة تنظيم «داعش» القرى والبلدات الأشورية على شريط نهر الخابور في محافظة الحسكة وتهجيرها، وخطف نحو 90 آشورياً. كل هذه الأعمال تحدث والعالم يتفرّج، وكأنّ المطلوب إفراغ الشرق من نور المسيحيين.
لن نقول وداعاً لشجرة عيد الميلاد، ولن نلغيَ هدايا بابا نويل من قاموسنا، وسنبقى نتعمّد في هذا الشرق، ولن يستطيع أيُّ تنظيمٍ إرهابي مهما بلغت قوته وجبروته أن يمحوَ حضارةً أسّست تقاليدها لمسيحيّة مشرقيّة، صمدت في أحلك الظروف على رغم فارق العدد ووسيلة البقاء.
العراق كان آشورياً قبل الفتح العربي، وسوريا كانت مسيحيّة، لكنّ الحروب والتغييرات جعلت القوميات الأشورية والسريانية والكلدانية تنحدر لتصبح أقلية تحاول الحفاظَ على وجودها، متمسّكةً بإيمانها المسيحي مثل العمال الأقباط الذين ذبحتهم «داعش» في ليبيا ولفظوا المسيح كلمتهم الأخيرة، فتُحارب بغصن الزيتون، وتحاول الإبتعادَ قدرَ الإمكان عن دهاليز السياسة والحروب، وتفتّش عن بقعةٍ جغرافية آمنة تحتمي بها بعدما كان الشرق كلّه أرضَها.
نعم، فشجرةُ العيد التي تزيّن منازلنا في عيد الميلاد هي تقليد أشوري قديم، وهدايا بابا نويل كانت توزّع في رأس السنة الأشوريّة، والمعمودية بالمياه المقدّسة كان يمارسها الأشوريون قبل مجيء السيّد المسيح. هذه هي رمزيّة الأشوريين الذين هاجمتهم «داعش» فجر أمس، في ريف الحسكة، ما أدّى الى نزوح 500 عائلة من قراها، الى مدينة الحسكة حيث مطرانيتهم التي أوَتهم وعملت على حمايتهم.
معارك الميدان
استبسَل الأشوريون في الدفاع عن وجودهم، مع بعض المجموعات من قوات حماية الشعب الكردية، وعدد من مقاتلي المجلس العسكري السرياني المنضوي ضمن القوات الكردية، لكنّ إمكاناتهم الضعيفة جعلت قراهم تتهاوى، وسط هجوم كثيف بالمدافع، فسقطت قرية تل شاميران أولى خطوط الدفاع وفُقد مصير أكثر من 40 عائلة يُعتقد أنهم وقعوا أسرى بأيدي «داعش»، بالإضافة إلى فقدان الاتصال بعشرة من حراس قرية تل هرمز، كانوا في القرية لحظة الهجوم، قبل أن تهاجم «داعش» بلدتَي تل شامية وتل شاميران.
واستمرّت موجة النزوح نحو الحسكة والقامشلي، وسط الخوف من السيطرة على قرى أخرى تقع على الشريط الشمالي لنهر الخابور، بالإضافة إلى بلدة تل تمر الآشورية التي تدور حولها اشتباكات عنيفة، مع أنباء عن تفجير «داعش» جسراً مهماً في المدينة على الطريق المؤدية إلى حلب، وقد إستمرت المعارك حتى ساعات متأخرة وفق ما أكد أحد المسؤولين الآشوريين.
لن يُسمع صوتُ قرع الاجراس في بلدات محيط نهر الخابور، ولن تُرفع الصلوات في الكنائس التي أُحرِق قسم منها، خصوصاً كنيسة تل هرمز التاريخية التي تُعَدّ من أقدم الكنائس السوريّة. فُقِد الأمان لقوميةٍ لطالما آمنت بالسلام، وسط عبث «داعش» بالمنازل والممتلكات، وإستكمال مخططها التهجيري الذي طاول مسيحيّي الموصل، بهدف إفراغ الشرق من مسيحيّيه، وإضعافهم مثلما حصل مع مسيحيّي لبنان الذين يُعتبرون الرافعة للوجود المسيحي الحرّ في الشرق.
مفاوضات
تحاول بطريركيّة الأشوريين التقليلَ من حجم الخسائر، ومحاولة وقف تقدّم «داعش» وتخريبها للبلدات التي سيطرت عليها. وفي هذا السياق، علمت «الجمهورية» أنّ «البطريركية قامت بمروحةِ إتصالاتٍ مع الفاعلين للَملَمة الوضع، وهي تُفاوض لإطلاق الأسرى، وقد طلبت من جميع المطارنة والمسؤولين الروحيين عدمَ الإدلاء بتصاريح الآن لكي لا تؤثر سلباً في مسار المفاوضات التي إنطلقت لكن مع تخوّف على مصير الأسرى، اذ لا شيءَ يوحي بحلٍّ قريبٍ لمعاناتهم».
أمام جحافل الإرهابيين الزاحفة على ريف الحسكة، يبقى الأمل لدى الأشوريين بوقف تمدّدهم، وإطلاق أسراهم، خصوصاً أنّ مقولة «الجميع يتعرّض للخطر والموت» لم تعد صحيحة، فتهجير 25 الف نسمة من اقلية يبلغ عددها 30 ألفاً، سيمحو وجودها، بينما تهجير 100 ألف من أكثرية تعد 20 مليوناً لن يؤثر فيها على رغم فظاعة التهجير ولاإنسانيّته.
إستنكارات
لبنان الذي يشكّل ملجأَ الأقليات المسيحية المضطهَدة في الشرق تلقّى نبأ التهجير، وفي نفسه خوفٌ من الآتي. فدان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، «أعمالّ القتل والاسر والعنف التي تعرضت لها القرى المسيحيّة الأشوريّة».
واذ دعا «الدول الداعمة للارهاب والتطرف الى التوقف عن مدّ مشروع الدمار والقتل والإبادة بمختلف مقوّمات الإستمرارية»، شدّد على «ضرورة تعميم لغة الحوار وقبول الآخر ومحبته، لأنها السبيل الوحيد للتقرّب من الله الذي يدّعي المتطرّفون أنهم يقتلون دفاعاً عن اسمه».
من جهته، استنكر بطريرك الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام «الأعمال الوحشيَّة التي تستهدف أخوةً وأخواتٍ لنا في المواطنة والإيمان والتراث». وشدّد على «أنَّ دم هؤلاء الأبرياء وعذاباتهم تصرخ إلى الله، وتدوِّي في ضمير العالم بأسره»، سائلاً: «هل يحتاج العالم إلى براهين إضافيَّة ليقف وقفةً واحدة حقيقيَّة فعَّالة، ضدَّ هذا الوباء وهذه الجرائم وهذه اللاإنسانيَّة التي تُدمِّر الحجر والبشر؟».
وسط التخاذل عن حماية المسيحيين، وإستمرار الحرب التهجيرية عليهم، وتهاوي خطوط الدفاع، تبقى المسؤولية على الغرب والشرق لوقف هذه المذبحة، لكي لا يتلوّن نهر الخابور بدماء الأشوريين مثلما تَلوَّن البحر بدماء أقباط مصر.