تحقيق – منى سكرية
وطنية – ارمينيا – تنطلق شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية – الميدل إيست من بيروت في رحلتين أسبوعيتين الى يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا، مما يفسح المجال في التواصل بين أبناء الطائفة الأرمنية في لبنان وأخوانهم في أرمينيا، بحثا عن الجذور والتاريخ والكنائس الموزعة في يريفان بأعدادها العشرين.
ويوجد في يريفان مسجد واحد بناه الايرانيون وأسموه المسجد الأزرق، اما الكنائس ومثيلاتها فموجودة في غير مدينة أو قرية في أرمينيا، وبعضها في أعلى إرتفاعات التضاريس الجبلية، وبعضها محفور في الصخر لغايات الإحتماء من الغزوات، مما أضفى على بعضها سحرا في فن العمارة، ورهبة التشييد. كما ساهمت رحلات الميدل إيست في تعزيز العلاقات مع لبنان وفي تفتيش المستثمرين عن فرص لطموحاتهم، وأيضا في هجرة سوريين وإفتتاحهم لمؤسسات جديدة كالمطاعم وصالات الحلاقة والمشاريع في الزراعة كما أخبرنا ساكو وهاغوبيان النازحين من حلب وقد إلتقيناهم على متن الطائرة. فالبلاد حديثة الاستقلال، وغنية بثرواتها، ورائعة في أماكنها السياحية، وواسعة في مساحات غاباتها، ونقاء هوائها، وتوافر المنتجعات السياحية فيها، والرياضات المائية، إضافة الى ما يميز سلوكيات أهلها من تواضع، وترحيب ب”بالغريب”، وكرم في الضيافة، وتنوع في المأكولات ومذاق منتجاتها الزراعية المشبعة بالمياه وأضواء الشمس، وتفاني المرأة الأرمنية في إعداد شتى أنواعها من المؤن والعصائر.. فالمرأة الأرمنية إعتادت العمل، وهو ما لاحظناه سواء في المطاعم، أو المخابز على الطريقة التقليدية المكونة من التنور الطيني، و”الطارة” التي يمد عليها العجين قبل أن يدخل في التنور ليخرج أرغفة مستطيلة الشكل رقيقة السماكة وملونة بجمر النار.
وتعزو مسؤولة الاعلام والعلاقات العامة في مشروع “مائة حيوات” (جمع مفردة حياة) المتفرع من مؤسسة “مبادرات من أجل تطوير أرمينيا” زارا نازاريان وجود أعداد كبيرة من النساء العاملات الى هجرة الشباب الى الخارج لا سيما الى روسيا للعمل، والى سائر أرجاء المعمورة، لأن الحد الأدنى للأجور يبلغ 250 دولارا أميركيا، ولفقدان 45% من العاملين في المصانع السوفياتية عملهم بعد إنهياره، متطلعة في آن وبإهتمام الى نجاح الاتفاق النووي الايراني – الاميركي، لأنها تتوقع إنعكاسه الجيد على أرمينيا نظرا لعلاقاتها الإيجابية مع إيران.
وفي الطريق من يريفان الى أي مكان لا يمكن للسائح إلا مشاهدة النساء البائعات في جنبات الطريق لمنتجاتهن الزراعية: قمر الدين المجفف، ومثله الخوخ والكرز، عصائر شراب التوت، والفودكا المستخرج من التوت باعتباره وصفة طبية لمكافحة الكريب في الشتاء، وعرانيس الذرة والبطيخ، الى مطرزات وصناعات خشبية محفورة بأشكال ترمز الى كل ما يمت الى أرمينيا بصلة، ومشغولات يدوية أكثرها من الصوف ولو في عز الصيف. وفي الطريق من يريفان الى حيث تذهب يروي لنا الدليل السياحي ستيفان بكل جدارة وسعة إطلاع وحماسة تغمر طلته الشبابية عن تاريخ وثقافة ومكونات أرمينيا، وعن أساطير نسجتها مخيلة الغربة والعزلة ووحشة الجبال الشاهقة، وإرتباطها بالأمكنة والثقافة الشعبية. فالحجارة السوداء المفتته ترمز الى أظافر الشيطان التي رماها في صراعه مع المؤمنين، أما الحجر المسطح والمقبب في وسطه فهو لتبرك النساء اللواتي لا ينجبن، أو شجرة الجوز المحترقة بفعل شمعة أضاءها أحد المتضرعين أن تتحقق أمنيته فنسي الشمعة ولم يتمكن من الهرب فاحترق واحترقت الشجرة وبقيت رمزا لجلب الحظ كما في الأسطورة وحكايتها!، الى أن تبلغ الأسطورة ذروتها في إستطاعة أحد الرهبان في دير هايرفانك المطل على بحيرة سيفان من منع تيمورلنك من قتل مجاميع من الناس أوقعهم في الأسر، فما كان من الراهب إلا أن طلب منه السماح لهم بدخول الكنيسة الصغيرة لقاء أن يشفيه من مرض أصابه، وكانت الأعجوبة في إستيعاب هذه الكنيسة الصغيرة المساحة لكل هؤلاء، وبالتالي خروجهم على شكل فراشات توزعت بشرا بعد نجاتهم من جنود تيمورلنك ووحشيته. وكذلك في منطقة “ستون آيج” أو الصخور المعمرة، والتي تدل على حركة الفلك والنجوم، ولكن تحكي أيضا قصة آدم وحواء والحية.
وادي الزهور وطريق الحرير
تقع مدينة كوتايك في منطقة “تزاغ كاتزور” ومعناها وادي الزهور على مقربة من طريق الحرير، وفيها تقع كنيسة “كاتشاريس” منذ القرن الحادي عشر، وتتميز بساعتها الشمسية، والصلبان الحجرية والكثيرة العدد حولها. فالصليب وفقا للاعتقاد الارمني هو رمز الحياة تحيطه الزهور المحفورة بإتقان، وبالدوائر التي ترمز الى الكون وتتوسطه إشارة معى الخلود ويعلو ذلك كله الله الكلي القدرة.
في الكنيسة القابعة على كتف بحيرة “سيفان” والمبنية في القرن السابع بأحجار بركانية سوداء كما في غالبية كنائس أرمينيا، وفيها حصلت أعجوبة تيمورلنك والراهب، ثمة قداس من نوع آخر. في الداخل تجمعت النسوة وقلة من الرجال، يؤدين صلاة من أجل السلام وحفظ أرمينيا. نساء يرتدين الملابس التي تغطي الرأس الى أسفل القدمين وبانت كأنها أقرب الى ملابس النساء المسلمات. هؤلاء يقيمون قداسهم السنوي على نية السلام من أجل ارمينيا معتمدين ومنها سيرا على الأقدام الى قره باخ، ويعتبرونه حجهم السنوي. إنها مسافة 140 كلم – من مكان الكنيسة – و250 كلم بدءا من يريفان، تجتازها العجائز قبل الشباب في سيرهم الى المرتفعات حيث الثلوج في عز الصيف، وأماكن ممارسة رياضة التزلج في جليد الشتاء التي تشتهر بها جبال أرمينيا.
تتجلى في بلدة “نوراتوس” (130 كلم عن يريفان وترتفع 2100 متر عن سطح البحر) عبقرية الإبداع الفني الأرمني أو ما يعرف بفن “الخاتشكار” وهو عبارة عن النصب المحفورة بالرسوم والنحت فوق القبور، والعائدة لما قبل الميلاد، وما بعده، وتمثل جزءا من هوية الشعب الأرمني الثقافية. هذه النصب المستطيلة الشكل الى إنحناءة في الأعلى ما تزال قائمة وتقارب الثمانمائة نصب وتحتفظ بخطوط فن الخاتشكار. كما ان الأضرحة ما تزال تحتفظ بأشكالها المثلثة أو المربعة، أو على شكل أسرة الأطفال، وبالرسومات عليها من مراسم احتفالات او حفلات صيد أو أنواع عمل.
أما في بلدة “غوريس” فتطالعك الأشجار المثمرة من توت ومشمش وإجاص وكرز، الى كروم العنب، وأنواع مختلفة من الورود الريفية الجميلة، وسقوف البيوت القرميدية وسط غابات من اللون الاخضر. إنها البلدة التي تبعد مسافة ساعة في السيارة الى الحدود مع إيران، والمعبر الوحيد إليها، بانتظار إنتهاء إيران من بناء سكة القطار بين البلدين ومنه الى جورجيا فأوروبا. (تلجأ جورجيا بين حين وآخر الى إغلاق المعبر بينها وبين أرمينيا). ومنغوريس تطل على الجبال التي تفصل أرمينيا مع قره باخ الحلم الدائم عند الشعب الارمني، كما حلمهم الدائم في صعود جبل آرارات (5165 مترا إرتفاع) في الاراضي التركية ولكن يحجون إليه عن طريق جورجيا مما يبدل المسافة من 80 كلم الى 800 كلم، لقناعته التامة أنه جزء من أراضي أرمينيا وعليه رست سفينة نوح.
تجاور بلدة غوريس كهوف بلدة “خندوريسك” والتي بقيت مأهولة الى ستينيات القرن الفائت، لكن النسور وأنواع من الطيور ما تزال تعشش فيها، ومن غوريس وعلى إرتفاع 1600 متر صعودا، لا بد لأي سائح أن يستخدم التلفريك الذي بنته مؤسسة “مبادرات من أجل تطوير أرمينيا”. التلفريك عبارة عن غرفة زجاجية تتسع لأكثر من عشر اشخاص، وتجتاز مسافة 5750 مترا ما بين تلتين فوق جبال ووديان عميقة مكسوة بالاشجار، وبمدة لا تتجاوز 12 دقيقة. هذا التلفريك الموجود في قرية “تاتيف” يعتبر الأطول في العالم، والأكثر تجهيزا بشروط السلامة. وقد ساهم هذا التلفريك في ربط القرى التي تباعدها الجبال، ووفر لأهاليها بيع منتجاتهم الزراعية، ولكنيستها فرصة إعادة الترميم، وفيها برج لقياس الزلازل وضجيج حوافر خيول الأعداء (القرن العاشر)، ومنها تخرج أهم العلماء والأدباء.
لا يمكن مغادرة أرمينيا دون التعرف الى مطبخها، وتذوق مأكولاتها وأبرزها: دول ماما (ورق العنب المحشي)، خاشلاما (لحمة الضأن مع التفاح والبطاطا والأعشاب)، خينغالي (شيش برك)، إيتش ( برغل ساخن مع قليل من خلطة التبولة)، وغارنيارنج (شيخ المحشي)، وإمام بايضلي (أي إمام غاطط على قلبه لانها تتألف من الباذنجان وهي أكلة تركية أيضا)، إضافة الى أجود وأطيب انواع الأجبان المنتجة محليا. كما لا يمكن مغادرة أرمينيا دون الإستماع والإستمتاع بموسيقاها ( آلة الدودوك وتشبه المجوز، والداهول وتشبه الطبلة) وموسيقى كبار عازفي البيانو العالميين وأبرزهم خاتشادوريان، وكوميتاس الراهب الذي عمل على تأليف الموسيقى وفقد عقله في مجازر إبادة الارمن على أيدي الأتراك وتوفي لاحقا في أحد مستشفيات باريس، وكذلك أغانيها وفولكلورها الشعبي الجميل.. وغدا جزء ثالث وأخير.