صَدَرَ مؤخَّرًا للمحامي الدكتور سمير اسطفان كتابٌ بعنوان وثائقُ قَرْية بحنِّس- ضَهْر الصوَّان تجاوَزَ فيهِ المؤلِّفُ العالَمَ الأكَّاديميِّ الرَّصينِ، إلى حَقْلِ الأدبِ الرَّحْبِ ومَيدانِ الفَنِّ الذي لا حدودَ لهُ ولا قواعِد، وبقيَ أمينًا على مَنهَجِيَّةِ البَحْثِ العلميِّ، ضَنينًا بمُسْتلزماتِهِ، لا يُفَرِّطُ بها إلاَّ مُكْرَهًا؛ فجاءَ العملُ مَوْسُوْعيًّا رائِعًا، نَدَرَ مثيلُهُ في هذه الأيام.
يَقَعُ الكتابُ الضَّخْمُ في ثلاثةِ أجْزاءٍ، الأول 256 صفحة، والثاني 214 صفحة والجُزءُ الثالثُ 260 صفحة. جميعُها مُجَلَّدةً بشَكلٍ أنيقٍ وبحجمٍ يخرجُ عنِ المألوف؛ إذْ يبلغُ طولُ الصَّفحةِ ثلاثة وثلاثون سنتمترًا وعرضُها ثلاثة وعشرون سنتمترًا. الورق كوشِّي مئة وخمسون غرامًا، والأجزاءُ الثلاثة، مُجلَّدة تجليدًا فنيًّا وموضوعة في علبةٍ أنيقةٍ يبلغُ وَزْنُها سبعة كيلوغرام. الموادُّ مخطوطة بيد المؤلِّفِ، ومُعظمُ الصورِ مطبوعة بعدَّةِ ألوان. هذا إلى الوثائق القيِّمةِ، النَّادرة المُرفقة بشجرةِ كُلِّ عائلةٍ أساسيَّةٍ تناولها الباحِثُ.
طُبعت المجموعة في مؤسَّسة أنطوان الجلخ وإخوانِهِ للطباعةِ والتَّجليد، وجَهَّزها للطباعةِ فادي سعد الجلخ.
قدَّمَ للموسوعةِ نيافَةُ الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير؛ ومَا جاء في كَلِمَتِهِ: إنَّ هذا العمَلَ الكبيرَ أقلّ ما يُمكن القول فيهِ، إنَّهُ وُضِعَ بصبرِ وأناةِ المُربِّي الذي عملَ في التدريسِ لِعَقْدينِ منَ الزَّمنِ، ودِقَّةِ وبراغماتيَّةِ المُحامي الذي مارَسَ القانون لربعِ قرنٍ، وبلاغة الأديبِ الذي أغنى المكتبة الأدبية بمؤلَّفاتِهِ النَّقديَّةِ باللغتينِ العربيَّة والفرنسيَّة، كما ألبسَ الكتابَ ثوبًا أنيقًا أناقةَ الشَّاعِرِ الذي استهلَّ به سمير اسطفان مسيرته الأدبيَّة
الجُزْءُ الأوَّلُ
يتناولُ الدكتور سمير اسطفان في الجُزْءِ الأولِ واقع بحنِّس الجِغْرافِيّ والبشريّ. أحوال سكَّانها الاقتصادية والاجتماعية، العملة من المَعْدِنيّةِ إلى الورقيَّة: الذهبيَّة، الفضيَّة، النحاسيَّة. التَّاريخ العقاري لقريةِ بحنِّس؛ وكيفيَّةِ انتقال الملكيات، منذُ القرن التاسعَ عَشَرَ حتى مطلعِ القرن الحادي والعشرين. وقد مرَّت الملكيَّةُ العقاريَّةُ في بحنِّس كما يشيرُ المؤلِّفُ بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى، وهي حِقْبْةٌتَقَعُ قبل إنشاء سجِلِّ مِسَاحة جبل لبنان القديم. فمُعظم الاراضي كانت يومها بتملُّكِ الأمراء اللمعيِّين، الذين تنازلوا عنها، شيئًا فشيئًا، لمصلحَةِ شركائهم في المُزارعةِ.
المرحلة الثانية، وهيَ حِقْبَةُ الإدارة الذَّاتيَّة لجبلِ لبنان في عهدِ المُتصرِّفيَّة، وإنشاء سجل المِسَاحَةِ القديم.
المرحلة الثالثة، وهيَ حِقْبَةُ سجلّالمختاريَّة. ويُعْتَبرُ هذا السجلّ توطئة لتثبيتِ الملكيَّة العَقَاريَّة نهائيًّا.
الجُزْءُ الثاني
يتناولُ الدكتور سمير اسطفان في الجُزْءِ الثاني موضوعَ مَشْيَخةِ الصُّلحِ ودورَها في قراءةِ التاريخ المحلِّيِّ والإقليمِيِّ. ذاكرًا شيوخ الصلح ومخاتير القريةِ وأهمَّ ما قاموا به من أعمالٍ، والآثار التي تركوها. وقد توقَّف عند القومسيون البلدي، وتاريخ سراي بحنِّس وأحوال الأوقافِ ودورِ العبادةِ والمدارس، ودير بحنِّس لراهبات المحبَّة، وبخاصَّةٍ مصحّ بحنِّس وما أدَّاهُ من خَدَمات على صعيدِ مرضى السِّلِّ؛ ولم يغفل قضيَّة الصراع الكاثوليكي- البروتستانتي، وأثره على قطاعِ التعليم في جبل لبنان.
الجُزْءُ الثالِثُ
يضمُّ هذا الجُزْءُ سجلات حافلة لسكانِ بحنِّس – ضَهْر الصَّوان؛ ويتميَّزُ الكتابُ، عمومًا، وهذا الجُزءُ خُصُوصًا، بشجرات العائلات وبالصورِ الشمسيَّةِ النادرة لبعضِ شخصيات البلدتين، وبالإشارة إلى أبرز العادات والتقاليد التي عرفتهابحنِّس – ضَهْر الصوان.
نَلْمُسُ موهبةَ سمير اسطفان في خَطِّهِ ومسيرِ بحثِهِ. فهذا الحَصِيفُ الرَّصينُ السَّدِيدُ الرَّأيِ، الطويلُ الأناةِ، جَعلَ من بحنِّس قريةً للتَّذَكُّرِ، ومن ضَهْرِ الصَّوَّان بَلْدةً للعيشِ والتَّأريخِ. لم يَنْتزِعْهُ الحاضِرُ بانشِغالاتِهِ، ولا المُسْتَقبلُ بوعودِهِ وإغْراءاتِهِ منَ الماضي، ولا أضعفَ حَنينَهُ إلى أمجادِ أهلِهِ وأجدادِه؛فدخَلَ حرمَ التاريخ من بابِهِ الواسِعِ، وزامَلَ كبار جهابذتِهِ وكأنَّه ارتوى من رحيقِ تلكَ الخوابي التي مَلأها كبارُ رجالاتِ الجبلِ الأشمِّ، أمثال نعُّوْم وصلاح لبكي ويوسف السَّوْدا وأنطون سعادة وبيار الجميل وألبير مخيبر وعبد الله وإميل لحود.
ولعَلَّ كفاءتَهُ الثقافيَّة مُضافةً إلى براعتِهِ كأديبٍ وباحِثٍ، تجلّت في هذا الحوارِ الصَّامِتِ بينَ الأمْسِ في بحنِّس واليوم في ضَهر الصوَّان. ونادِرًا ما ظَهَرت بحنِّس بهذا الحُسْنِ وهذه الجاذبيَّةِ وهذا الدلالِ، كما بدت على صفحاتِ كتابِهِ الأُسطوريِّ.
يَسْعى مُعظَمُنا إلى تَحْسينِ وَجْه مَنْ يُحِبُّ، فيُحاوِلُ أن يَرُدَّ إليهِ بشاشَتَهُ إنْ فقدَها وينتَزِعَ ما أصابهُ من تَجهُّمٍ وما ألحقَ بهِ الدَّهْرُ من تَغَضُّنٍ. والشاعرُ سمير اسطفان برعَ في هذا المضمارِ، فقاربَ روحَ الطبيعةِ في بحنِّس ولمسها بأطرافِ أصابعِهِ،واكتَشَفَ بحنينِهِ الحارقِ إلى أيَّامِ السَّعدِ، شَفَفَ أهلِها، فأعطاها أغلى ما في قلبِهِ مِنْ حنانٍ وأجودَ ما تجودُ بِهِ أصابعُ الأديبِ ونَفْسُهُ من آيات.
استثنائيٌّ شكلا ومضمونا
قد يتساءلُ بعضُ من اطلعَ على هذه المجموعةِ: أمجنونٌ هذا الرَّجُل لِيُقْدِمَ على هذا العملِ الشَّاقِ، بل المُرْهِقِ؟ لا. إنَّهُ سمير اسطفان، الشَّخْصيَّةُ غير المَألوفة والمُتعدِّدَةُ المواهِبِ وصاحِبُ العينين الموجَّهَتين، أبدًا، صوبَ آفاقِ الحداثةِ، وهذا كُلُّ الأمرِ. من هنا أنَّ عَمَلَهُ يُشَرِّفُ البَحْثَ العِلْميَّ، ويُمْكِنُ اعتبارُهُ أحَدَ أدَقِّ المراجِعِ بالنسبةِ إلى بحنِّس – ضهرِ الصوَّانِ، وأجْمَلَ عرفانِ جميلٍ يُقدِّمُهُ حفيدٌ، لمن بنى هذه الأمجادَ. فشخصيَّةُ هذا الرَّجُلِ الفريدِ توازي تُراثَهَ الفَذَّ، ولا يُعادِلُ ذكاءَهُ الحادَّ غيرُ إيمانِهِ العميقِ بلبنان وعِشْقُهُ الحارُّ لبحنِّس- ضهر الصوَّان.
هذا ما حملَ المُؤرِّخَ الدكتور عصام خليفة على القولِ: كتاب الدكتور سمير اسطفان استثنائيٌّ في شكلهِ ومضمونِهِ؛ فصاحبه يبرهن في كل صفحة: إنَّه مؤرِّخٌ مدقِّقٌ لا يرتكز إلاَّ على الوثائِقِ الثابتة. وإنَّه قانوني متمكن لا ينسى ابداً أهمية تحديد المصطلحات وتتبع جذورها وتطور معانيها الحقوقية. وأنَّهُ أديب يبرهن ان البحثَ التاريخيَّ ليس علماً فحسب، وانما هو ايضاً فَنٌّ يَعْرِضُ الوقائِعَ والمعطيات بديباجة لغوية مشرقة. والكتابُ استثنائيٌّ في وُضُوْحِهِ وغزارةِ معارف صاحبه، ودقة ملاحقته لأصغر التفاصيل1.
من هذه الزاويةِ نفهمُ أنَّ هذا البَحْثَ حَلْقَةٌ في سِلْسِلَةٍ تُراثيَّة، وَضَعَها سمير اسطفان بعدَ تجاربَ شَخصيَّةٍ عاشها في ضوءِ الماضي الذي سمِعَ عنهُ أو قرَاَ. فإذا بالماضي بوَّابةً، لا تؤدِّي إلى الحاضِرِ وحسبُ، بلْ إلى استشرافِ المُستَقْبل. إنَّ هذا الإنْجازَ يُسلِّطُ الأضواءَ على مُعضلاتِ قرانا وبخاصَّةٍ، قُرى الجبلِ، ويضَعُ أهلنا أمامَ تعقيداتِ الحاضرِ اللبناني، ويرسمُ استراتيجيةً جديدةً لقرى لبنان، عامَّةً، والجبلِ خاصَّةً، مشدِّدًا على خطورةِ بيعِ الأراضي وانعكاساتِها على مصيرِ الوطن وأبنائِه. ذلكَّ أنَّ الحروب َالتي عرفها لبنان، معطوفة على ما يحصل حاليًّا في البلادِ العربيَّةِ، إلى مطامع أصحابِ رؤوسِ الأموال وخساسةِ سماسرةِ العقارات، كُلُّها أمور انعكَسَتْ، بشكلٍ مأسويٍّ على القرى اللبنانيَّة، فازدهرت عمليَّةُ بيع الأراضي، ومعها هُجرة الشبابِ، بحيثُ تكادُ بعضُ القرى تفرغُ من أبنائها المُنتجين، وبعضها الآخرُ من أهلِها الأصليين.
الكتاب الأسطورة
أمجادُ بحنِّس، كما رواها المؤلِّفُ، لا تُحصى ويصعبُ وَصْفُها؛ ولكِنَّ نَجْمَها المُشْرِقَ، هوَ سمير اسطفان عينُهُ. فكُلُّ حدثٍ وكُلُّ حركةٍ وكُلُّ عائلةٍ، في هذه البلدةِ المحظوظةِ، تطلعُ من قلمِهِ حيَّةً، نابِضَةً، مُتلألئة؛ ولعلَّهُ منَ المُدْهِشِ، أن نرى رَجُلاً بهذا الذَّكاءِ وهذه الثقافةِ، يُقارِبُ موضوعًا عاديًّا، بسيطًا، وحتى متواضِعًا. والرَّائِعُ الفاتِنُ، كيفَ جعلَ المؤلِّفُ هذا الموضوعَ، جميلاً، أساسيًّا وعميمَ الفائدةِ. ولسوفَ يكونُ بَاحِثو الغدِ، على موعدٍ معَ هذا الكتابِ الأسطورة، الذي يدلُّ على روحِ الوعي والمسؤوليَّةِ التي يكتنزها المؤلِّفُ كما شَهِدَ بذلك الدكتور ربيعة أبو فاضل فقالَ: ما يَدلُّ على روح الوعي والمسؤوليّة هو اعتماد صاحب الكتاب على المنهجِ الإحصائيِّ، من دون أَن يُهمل إِشارات التَّفسير والتَّأويل: فأَنت تقرأُ أَسماءَ الأَمكنة، من نَواحٍ وبيادر، وتَقرأُ معجمًا بمفردات لم تعد متداولة، من الشاهيّة إلى الناعوس والغرْف، إلى المغالق، والنيّاره، إلى التِّتْنايه والقافصة، ولو شئت فثمّة معجمٌ بأَسماء النِّساء، من نفنافه إِلى يمامه إلى نور العين وحبقة وفاكهة… والمُلاحظ أَنّ أكثريّة أَسماء النّساء منَ الطّبيعة، وأكثريةَ أَسماء الرِّجال من المُناخ الدّيني، فلا ورد، ولا ياسمين، ولا زهرة، بين الرِّجال، بل موسى، وسليمان، وإبراهيم، وسركيس الخ2.
قرأتُ البارِحة، فيما كُنتُ أُعِدُّ هذه الْمُقَاربةَ، أنَّ الملياردير الأميركي مارك زوكربرغ صاحب فيس بوك، تبرَّعَ بتسعين بالمئةِ من ثروتِهِ الضخمة للأعمالِ الإنسانيَّة؛ فخضَّني الخبرُ، ذلكَ أننا، نحنُ في لبنان، نكادُ لا نَجِدُ، بين كبارِ رجالِ المالِ والأعمال، من يتبرَّعُ ولَوْ بِعَشَرَة بالمئةِ من ثروتهِ للأبحاثِ العلميَّة، كهذا الذي بين أيديناِ.
منَ الصَّعْبِ بمكانٍ تحديدُ هذا الكتاب التاريخيّ والشاعِريّ في آنٍ؛ بيدَ أنَّ الدكتور سمير اسطفان، بدِقَّةِ لباقَتِهِ ومِهْنيَّتِهِ العاليةِ، جمَعَ بامتيازٍ صوتَ الطبيعةِ في بحنِّس إلى موهِبةِ أهلِها وهدبهم عليها ومِنْ ثَمَّ تفانيهم في جعلِها لؤلؤةً بين قرى المتنِ الزَّاهِرِ الميمون. فنادِرًا ما كانَ البحثُ التَّاريخِيُّ الاجتماعيُّ سَلِسًا إلى هذا الحَدِّ، والجداوِلُ والأرقامُ سَهلةً، لا تُعيقُ مرورَها تعقيداتُ الرياضياتِ وتشَعُّبَاتُها.وهذا يَجعلُ الكتابَ، على الرُّغْمِ من بعضِ الهفوات الشكليَّة والهناتِ اللُّغَوِيَّة، جَوْهَرَةً في مكتبتنا التاريخيةِ-الرِّيفيَّة، تُوَشِّي تاجَ ضَهْرِ الصوَّان، وتُرَصِّعُ قَلَمَ مَنْ كتبَ وأبْدَع.
وبعدُ، لقد أَدْرَكْتُ، بما لا يَقْبَلُ الشَّكَّ، أنَّ هذه الموسوعةَ التي تَذَوَّقْتُ فيها، كُلَّ رَسْمٍ، كُلَّ نادِرَةٍ، كُلَّ ذِكْرَى وكُلَّ نبرةٍ، كانَت هدِيَّةً ميلادِيَّةً قيِّمَةً، بل أجملَ هدايا السَّنةِ الجديدة.
1و2 -ندوة أقيمت في الحركة الثقافيَّة أنطلياس بتاريخ 10/12/2015.