احتفلت الكنائس المسيحيّة هذا الأسبوع بـ”الصلاة من أجل وحدة المسيحيّين”. وقد باتت هذه الاحتفالات تقليدًا سنويًّا يصلّي فيه المسيحيّون كافّة من أجل ترميم الوحدة المتصدّعة بفعل الانشقاقات المتتالية التي شهدتها الكنيسة عبر تاريخها منذ نشأتها إلى يومنا الحاضر. فما المقصود، كنسيًّا وإيمانيًّا، بعبارة “وحدة المسيحيّين”؟
يحدّد سفر أعمال الرسل وحدة المؤمنين بوضوح في هذه الآيات الكريمة: “وكان جميع المؤمنين معًا وكان كلّ شيء مشتركًا بينهم. وكانوا يبيعون أملاكهم وأمتعتهم ويوزّعونها على الجميع على حسب حاجة كلّ واحد. ويلازمون الهيكل كلّ يوم بنفس واحدة ويكسرون الخبز في البيوت ويتناولون الطعام بابتهاج ونقاوة قلب” (2، 44 – 46). لا تتجلّى وحدة المؤمنين، وفق هذه الآيات، في وحدة الصلاة وحسب، بل بتقاسم الأرزاق وبالشركة في كلّ شيء، ولا سيّما الشركة في الأموال والمقتنيات. ونلاحظ أنّ كاتب هذا السفر، القدّيس لوقا الرسول، قد قدّم ذكر الشركة في الأموال قبل ذكر الصلاة.
يجدر، إذًا، بقادة الكنائس أن يسعوا لترميم الوحدة الكاملة بين المؤمنين في كنائسهم المحلّيّة، وذلك عبر التضامن مع الفقراء والمحتاجين كي تكون الوحدة المنظورة حقيقيّة وواقعًا ملموسًا، لا مجرّد كلام يُطلق في الهواء. لقد وحّد السيّد المسيح نفسه مع المستَضعفين كافّة، إلى أيّ قوم أو دين أو عرق انتموا، قبل عشائه الأخير مع التلاميذ، حيث قال: “لأنّي جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعدتموني، وحبوسًا فأتيتم إليّ” (إنجيل متّى، 25، 35 -36).
على أيّ وحدة بين المسيحيّين نتكلّم؟ والوحدة الكنيسة على مستوى الرعيّة الواحدة غير محقّقة. فالغنيّ فيها لا يلتفت إلى الفقير، والسليم الصحّة لا ينظر إلى عليلها، والقادر على الإعانة لا ينتبه إلى المحتاج إليها… أمّا على مستوى الأبرشيّة الواحدة فلا نلاحظ، إلاّ في ما ندر، تعاونًا بين رعيّتين جارتين، واحدة منهما غنيّة والثانية معدمة. وعلى مستوى الأبرشيات أيضًا لا نتبيّن أيّ شركة ماليّة بين أبرشيّتين جارتين أو بعيدتين إحداهما عن الأخرى، واحدة منهما ثريّة والأخرى مُعسرة. هذا عدا الانفصام في الشهادة الذي تحياه المؤسّسات الكنسيّة، وبخاصّة الاستشفائيّة والتربويّة، فيما يتّصل بالموضوع الماليّ.
أمّا في شأن العلاقة ما بين الإيمان والعمل السياسيّ فلا يذكر الكتاب المقدّس، ولا التراث الكنسيّ، الوحدة السياسيّة من ضمن الشروط الواجبة لبلوغ الوحدة الإيمانيّة. لذلك، يمكن المسيحيّين أن يختلفوا سياسيًّا ويتفرّقوا إلى أحزاب وتيّارات وقوى سياسيّة، من دون أن يكون لهذا الأمر أيّ تأثير على وحدتهم في الإيمان. وهذا الأمر من مقتضيات الفصل ما بين الدين والدولة، ومن شروط المواطنة الحقّ، ومن مستلزمات قيام الدولة المدنيّة، ومن مقوّمات التنوّع والتعدّديّة. الوحدة المسيحيّة لا علاقة لها ولا شأن لها بالوحدة على الصعيد السياسيّ.
بيد أنّ الخلل يقع عندما يُختزل الكلام على الوحدة المسيحيّة إلى مجرّد ترميم وحدة سياسيّة استدعتها الظروف. فعوض أن تصان الوحدة المسيحيّة، كما يشاؤها يسوع المسيح، أي الوحدة بين المؤمنين مهما كانت التباينات التي تفرّقهم، نرى أنّ أيّ خلاف سياسيّ قد يهدّد بنشوب فتنة بينهم. وهذا من دلائل التخلّف الدينيّ والوطنيّ. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عدم نجاح المواطنة في بلادنا وازدياد رصيد الانتماء الطائفيّ والدعوات المتكرّرة إلى وحدات طائفيّة قد أدّى إلى ما نشهده اليوم من واقع مرّ نحياه فرزًا حادًّا بين أبناء الوطن الواحد. أمّا المسؤوليّة عن هذا الوضع فلا تقع على عاتق المسيحيّين وحدهم، بل يشترك فيها المسلمون بالقدر عينه. وليست حال جماعة من الجماعتين بأفضل من حال الجماعة الأخرى.
الصلاة وحدها لا تكفي. هي وسيلة لغاية أسمى. الوحدة هي الغاية الأسمى. الوحدة إمّا أن تكون بالمسيح أو ليست هي الوحدة المنشودة.