بقلم البيبليّ الفرنسي كلود تاسان
عدي توما | وكالة زينيت |
يتوجّه يسوع مباشرة نحو ” الكتبة والفريسيين المرائين ” ، عبر سبع مناشدات تسمّى ” لعنات ” . ومثل هذه المناشدات كانت تقصد أناسا يستحقّون الشفقة ، لأن هناك شرّا قد اكتنفهم . واستخدمها الأنبياء للإنباء بالكوارث التي ستحلّ بأولئك الذين ، بسوء سلوكهم ، استحقوها !
التأنيب الأوّل (الآية 13) ، يقول كلود تاسان بخصوص الآية 14 ” الويلُ … لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ، وفي الوقت ذاته تطيلون الصلاة ، سينالكم العقاب الأشدّ . أنّ هذه الآية غائبة من مخطوطات متى ، وهي ترجعُ ولا شكّ إلى نسّاخ دُهِشوا لغياب هذه الآية الواردة في نصّ مرقس (12 : 40) . إذن ، التأنيب الأوّل هو بمثابة مفتاح لكل التعنيفات اللاحقة . فالكتبة ، مفسّرو الشريعة ، والفريسيّون الملتزمون بها بدقة ، كانت بيدهم فعليّا المفاتيح التي تمكّن الإنسان من الخضوع لسلطة الله الخيّرة . ولكنهم ، خلافا لبطرس ، الكاتب الحقيقيّ في الملكوت (متى 16 : 19) ، يتصرّفون بصفة بوّابين متسلّطين ، يُكثرون من عبارات ” ممنوع الدخول ” ، فيجدون انفسهم بالتالي خارجًا ، بسبب تصرّفاتهم التي ستفصّلها المناشدات التالية .
التأنيب الثاني (آية 15) يذكر الاقتناص الذي يمارسه اليهود . وخلافا للمعنى السلبيّ لهذه الكلمة ، ليس المقصود دعاية لكسب الوثنيّين ، وإنما قبولهم كمهتدين في الجماعة اليهوديّة . ذلك أنّ عبارة ” دخيل ” اليونانيّة Proselyte تعني ” الذي يأتي إلى ” ، إذ لم يكن للدين اليهوديّ ” مبشّرون ” بالمعنى المسيحيّ للكلمة ؛ لا بل كان الفريسيّون منقسمين بشأن قبول الدخلاء . غير أنّ أحد تيّاراتهم – وأحد ممثليه غمالائيل معلّم القديس بولس (أعمال 22 : 3) – كان يشجّع على اندماج الوثنيّين المهتدين . وكان اليهود المؤيّدون لهذا الإتجاه يستغلون اسفارهم إلى الخارج كي يعرّفوا بالله الحقيقيّ و ” بالفلسفة اليهوديّة ” ، وقد نجحوا بعض الشيء في ذلك العالم القديم ، حين كان هناك فلاسفة شعبيّون يجولون للبحث عن مؤيدين جدد .
هكذا عرف متى ، إذن ، فريسيّين غيورين يسعون إلى جعل غير اليهود ينفتحون على إيمان اسرائيل ، فهو لا ينتقدُ مثل هذه الغيرة ؛ إلاّ أنه يلومهم على أنهم يحجبون جوهر الإيمان ، حين يسعونَ إلى صوغ المهتدين وفق أساليبهم الطقسيّة وريائهم .
وحين نقرأ مكاشفات القديس بولس ، نرى أنّ بعض الواعظين المسيحيّين في الخمسينات كانوا يشدّدون كثيرًا على الممارسات اليهوديّة . ويُحتمل أن يكون هذا الإتجاه قد استمرّ ، حتى إن متى ، من خلال الفريسيّين الغيارى ، قصد أيضا مبشّرين مسيحيّين من أصل يهوديّ . فالمسيحيّ لا يهدي اخوته البشر حين يصوغهم وفق ممارساته الشخصيّة ، وإنما حين يحملهم على اكتشاف المسيح الذي ينتظر ، هو الآخر ، إهتداء المسيحيّ بالذات .
التأنيب الثالث (آية 16 – 22) ، هو بمثابة إمتداد للتأنيب السابق . ذلك أن اليهود الذين يجاهدون لهداية الوثنيّين ، يعتبرون انفسهم ، بحسب القديس بولس ” قادة عميان ” (رومة 2 : 19) . ولكم سخّف متى هذه العبارة (يقول البيلبيّ تاسان) ، حين وصف الكتبة والفريسيّين بأنهم “قادة عميان ” . ولمّا كانوا عميانا يقودون عميانا ، فهم إنما يضلّلون الذين يتبعونهم في متاهة ديانة قصيرة البصر – والشاهد على ذلك تراتبيّة باطلة في أيْمانها ، سبق أن رفضتها برمتها العظة على الجبل . وقد استُبدلت ، في الممارسة القضائيّة اليوم ، بسلسلة من المناورات ، مما يؤدي إلى الإلتجاء المستمرّ إلى ” المحاكم ” ! .
التأنيب الرابع (آية 23 – 24) يذكّر بأن اليهود كانوا يدفعون للهيكل عبر غلّتهم . وكان أكثرهم وسواسا قد جعل هذا العشر يمتدّ حتى أصغرَ التوابل ؛ ومتى لا يرفض ذلك ، ما دام هذا الوسواس لا يغطّي على الجوهريّ ، أي ذلك الحرص على “العدل والرحمة ” – وهي تهرع لسد حاجات البائسين – ، و ” الأمانة ” ، أي تلك النزاهة في كلّ علاقة؛ فبدون هذه المزايا ، تصبح الديانة ( عماوة ) ، كما يشدّد على ذلك مثلُ البعوضة والجمل ( آية 24) .
التأنيبُ الخامس (اية 25 – 26 ) ، يذكّر بطقوس التطهير بشأن غسل الاواني ، وبالمجادلات بين الفريسيّين لمعرفة ما إذا كان غسل الأواني يحقّق ، وحده ، كامل الطهارة الطقسيّة . ويسوع ، كما في متى 15 : 10 – 20 ، يحوّل الجدال : المهمّ هو الطهارة الخلقيّة الداخليّة التي تقتلعُ الطمع وكل الحواجز التي تحول دون السيطرة على الذات ، وهي بالتالي تفوقُ الحرص على الطهارة الخارجيّة . وفيما يشجبُ هذا التأنيب ، مجدّدا ، التناقض بين ما هو عليه المرء وبين ما يبدو في الظاهر ، يقصد بالتالي المسيحيّين بقدر ما يقصد الفريسيّين .
التأنيب السادس (آية 27 – 28) الذي اشتهر بعبارة ” القبور المكلّسة ” ، يكمل التأنيب السابق . لقد كانوا يبيّضون القبور كي تصبح مرئيّة حتى في الليل ، وهكذا يتجنّبون لمسها والتنجّس بها كونها تقيم صلة مع الموت . وتبدو هذه الصورة على جانب كبير من القوّة : فمن وراء ظاهر الإنسان البارّ ، قد تختفي نتانةُ الرياء وعدم الأمانة للشريعة .
التأنيب السابع (آية 19 – 31) يرتبط ، هو الآخر ، بالسابق عبر استخدام كلمة “قبور” . ففي بداية العهد الميلاديّ ، كان اليهود يشيّدون أضرحة لذكرى الأنبياء والقديسين . وبشعور عميق بالخطيئة ، كانوا يتذكّرون أن أجدادهم اضطهدوا مرسَلي الله ؛ ومن هنا نشأت أساطير بموجبها كان اشعيا قد نُشر بأمر الملك الجاحد ، وارميا قد رُجِمَ . وكان تشييد قبور لهم يعني بالتالي علامة ” ندامة ” ؛ وتلك نقطة يبني عليها يسوع برهانا ملتبسًا : فحين يعلن الكتبة والفريسيّون أنهم ، لو كانوا في أيّامهم ، لما اشتركوا في قتل الأنبياء ، فهم بذلكَ يدّعون أنهم كاملون . والواقع على يد منْ صُفّي الأنبياء ؟ على يد أناس كانوا يعتبرون أنفسهم بغير لوم ! والنتيجة : أنهم بنو أولئك الأجداد المجرمين وغير النادمين . وسوف يبرهنونَ على ذلك حين سيقع مرسَلو يسوع بين ايديهم ( اية 34) .
الحكم النهائيّ (الآية 32 – 36) يتبعُ القواعد الخطابيّة المألوفة لدى أنبياء العهد القديم ، ويعطي كلّ ثقله للتأنيب السابع . تبدأ الآية 32 بصيغة أمر ساخر يستبقُ موت يسوع : اذهبوا ، إذن ، حتى نهاية منطقكم الإجراميّ ! ومن ثمّ يأتي سؤال فيه قدر كبير من البلاغة : أناس قد سكنتهم عداوة الحيّة الشيطانيّة وملأهم سمّ الأفعى ، كيف يُفلتون من عقاب نهائيّ ؟!
يعطينا كلود تاسان ثلاثة مآخذ :
أولا : المأخذ (آية 34) ، يستعرض الإنجيليّ ، عبر يسوع المتكلّم عن المستقبل ، خلاصيّة مأساويّة عن رسالة الكنيسة تجاه يهود فلسطين : أنبياء وحكماء وكتبة آخرون من الجماعة المسيحيّة أضطهِدوا ، لا بل أُبيدوا ؛ ويقول متى أنهم ” صُلِبوا ” ، تأكيدًا منه على وحدة المصير بين يسوع ومرسَليه .
ثانيًا : العقاب (آية 35) ، سيقعُ دم يسوع ومرسَليه على المسؤولين . ولاشكّ أنّ قرّاء متى الأوائل قد استذكروا ، هنا ، نهاية أورشليم ، ورأوا فيها خاتمة مأساويّة للإضطهاد الدمويّ الذي نالَ كلّ الأبرار ، من أوّلهم حتى آخرهم : جريمة القتل الآولى كانت مقتل هابيل ( تك 4) ، والأخيرة في التاريخ البيبليّ كانت مقتل الكاهن زكريّا (2 أخبار 24 ) . إلاّ أن اليهود ، بدمجهم ، في صورة واحدة ، أشخاصًا في الكتاب المقدّس يحملون الإسم ذاته ، فقد ماثلوا ، بطيبْ الخاطر ، بين زكريا الكاهن والنبيّ زكريا (بن برخيا) . واستغلّ متى هذا الخلط ليدين ، بالتالي ، مقتل كلّ الأبرار عبر هابيل ، ومقتل كلّ الأنبياء عبر زكريّا .
ثالثا : يتجلّى تأييد الحكم (آية 36) في الجيل الذي عليه سيقع الحكم ؛ وليس المقصود هنا جيل يسوع بقدر ما هو جيل متى ، مع تلميح ٍ جديد ٍ إلى خراب أورشليم .