قد يبدو مصطلح التصميم الغرافيكي العربي بذاته خارج التداول. معظم الفنانين العرب سارت تجاربهم الغرافيكية على هامش مشاريعهم الفنية الكبرى، أو ضاعت فيها. وسيلاقي الباحث أو المصمم مقاصده في المراجع الغربية بسهولة أكبر. ليس السبب غياب هذا الفن عربياً، بل إنّه «لا يزال غير مرئي أو مخبأ» كما تقول رئيسة قسم التصميم والغرافيك في «الجامعة اللبنانية الأميركية» ياسمين نشابة طعان، مذكّرة بجذور الفن الغرافيكي في الفن الإسلامي، وبطابعه الحداثي الأصيل.
هكذا جاءت سلسلة «مكتبة التصميم العربي» الصادرة عن دار «خط بوكس» (تابعة لـ «مؤسسة خط») لإحياء الفن الغرافيكي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر حفظ تجارب فنانين عملوا من الخمسينيات وصولاً إلى الثمانينيات، وصناعة أرشيف بصري ومكتوب لهم. تسعى «مؤسسة الخط» التي أسستها هدى سميتسهوزن أبي فارس عام 2005، إلى الاهتمام بالخط والفونت العربي والتصميم والبصريات والطباعة، من خلال إقامة المؤتمرات والأبحاث. لكن إطلاق دار نشر صار حاجة ملحّة، عام 2010 تحت عنوان «خط بوكس» في أمستردام.
«مكتبة التصميم العربي» هي إحدى أبرز سلسلات دار النشر، بهدف «ردم النقص العربي في هذا المجال» كما تقول أبي فارس. تعمد السلسلة إلى أرشفة وتوثيق هذا الفن عربياً، عبر التخصص في تجارب روّاده، نقدياً وتحليلياً. بدأت السلسلة عام 2014 مع إصدار مؤلفي: «نصري خطّار ــ مهندساً خطوطياً حداثياً» ليارا خوري نصّور، و«حلمي التوني ــ استحضار الثقافة العربيّة الشعبيّة» لياسمين نشابة طعان.
اليوم، يضاف إلى هذه المكتبة العربية المعاصرة كتابان جديدان، هما «عبد القادر أناؤوط ــ التصميم شعراً بصرياً: رائد التصميم الغرافيكي في سوريا» لياسمين نشابة طعان، و«ضياء العزاوي ــ اتخاذ موقف: الفعالية عبر التصميم الغرافيكي» للينا الحكيم.
بعد ندوة عن المؤلفين بحضور الفنان العراقي ضياء العزاوي، وقعت الكاتبتان مؤلفيهما أمس في «متحف سرسق». بالعودة إلى طريقة عمل «مكتبة التصميم العربي»، فإنها تقوم على التعاون بين ثلاثة أطراف: الكاتب، والفنان أو عائلته، والناشرة/ المصممة التي تسعى إلى الموالفة بين تصميم الكتاب والمادّة الفنية المنشورة فيه. تتفق الأكاديميات والمصممات الثلاث على اعتبار المادّة، التي يتطلّب تجميعها وقتاً وتنقيباً ومقابلات، مجرّد مادّة أوّليّة عن الفنان، أقرب إلى استكشافه ودفع الباحثين الآخرين إلى إكمال البحث وتطويره. خصوصاً أن المشروع يصطدم بنقص فادح في الأرشفة العربية، كما أن معظم الموادّ العربية المكتوبة التي وقعت عليها المشاركات في المشروع «أقرب إلى مديح مستمرّ للفنان» كما تقول طعان. لذا يشبه العمل على مشاريع كهذه، ابتكار أرشيف شفوي أو مخبأ، والبحث عن أجزائه الضائعة وتركيبه مجدداً.
تتضمّن الكتب مادّة نقديّة وتحليلية لأعمال الفنانين، باللغتين الإنكليزية والعربية، يرافقها الشق البصري الذي يغطي 70% من الكتاب.
بعد إصدار أربعة كتب ضمن السلسلة، تؤكّد مؤسسة الدار أنّ العمل جار على البحث عن مصممين غرافيكيين من بلدان عربية مختلفة، وتظهير حساسياتهم وتأثيراتهم المختلفة.
ضياء العزاوي
زارت الباحثة والمصممة والفنانة اللبنانية لينا الحكيم محترف ضياء العزاوي (1939) في لندن عام 2015. كتابها يستند إلى تحليل الموادّ واللوحات والمجلات وأغلفة الكتب والملصقات السياسية التي صممها الفنان العراقي منذ منتصف الستينيات وصولاً إلى الثمانينيات، إلى جانب دفاتره الفنية التي وصل فيها إلى «مقامات الحريري» في القرن الثالث عشر. كما يأتي نتيجة محادثات طويلة أجرتها معه. احتفاظ العزاوي بوثائق لفنانين آخرين في أرشيفه الشخصي، يدلّنا على اهتمامه بمجايليه وبالحالة الثقافية العربية العامّة التي انشغلت بها تصاميمه. كخلاصة لبحثها الأوّلي، تقول الحكيم إنّ العمل التصميمي للعزاوي، يكاد يكون بمجمله «مناشطة سياسية وثقافية واجتماعية». توغل الحكيم في تجربة العزاوي عبر ثلاثة فصول أساسية تحاول تحديد تشعّب تجربته: «العمل الثقافي والسياسي: الفنون الغرافيكية، والمجلّات والمعارض»، الذي يتضمّن تحليلاً لتجربته في تصميم الملصقات السياسية، والمجلات وبوسترات المعارض. يقبع عمل صاحب جدارية «صبرا وشاتيلا» الغرافيكي في صلب ممارسته الفنية العامّة التي حملت هماً سياسياً وأخلاقياً إلى جانب همّه الجمالي. يضيء فصل «الصورة والنص: الوحي الأدبي والاستكشافات الصورية» في الكتاب على انشغال العزاوي المتجذر بالبحث عن مرادفات بصرية تصويرية للنص ومعناه. هكذا رافقت رسوماته قصيدة «أحمد الزعتر» لمحمود درويش، كما ارتكز إلى قصائد بدر شاكر السياب وأدونيس ويوسف الخال سركون بولص كعنصر جمالي. يلاحق فصل «تجليات الهوية: التراث؛ الملحمة، التراجيديا، وشهادة العيان» هواجس العزّاوي في «إيجاد لغة بصرية عربية وعراقية أصيلة» كما تقول الحكيم، كعمله على ملحمة جلجامش، والمعلقات السبعة وغيرها من المراجع الأدبية والميثولوجية.
عبد القادر أرناؤوط
البحث عن جذور التصميم الغرافيكي في الثقافة العربية، يجد مطرحاً في عمل ياسمين نشابة طعان مع طلابها في «الجامعة اللبنانية الأميركية»، الذين تكلّفهم بنبش روّاد هذا الفن وسيرهم. أما النتيجة فهي إدخال مادّة «تاريخ الفن الغرافيكي في الشرق الأوسط إلى مناهج الجامعة» العام المقبل. منذ البداية، تحاول طعان الفصل بين عمل الفنان وعمل المصمم الذي عليه أن يبتكر طرقاً دقيقة للتواصل مع المتفرّج. بعد إنجازها بحثاً عن الفنان المصري حلمي التوني قبل أعوام، تعرّفت طعان إلى ممارسة حداثية مبكرة في التصميم الغرافيكي عند عبد القادر أرناؤوط (1936 ــ 1992). أسس الفنان والأكاديمي السوري قسم الاتصال البصري في جامعة دمشق، مدخلاً التصميم الغرافيكي إلى مناهجها في الستينيات. رحلة العمل على هذا الفنان الطليعي، تتطلّب أولاً إعادة التعريف باسمه الذي بقي محجوباً، لأنه «جاء قبل أوانه». لجأت طعان إلى المقابلات مع مجايليه وتلامذته مثل الفنان السوري يوسف عبدلكي والتشكيلي الفلسطيني كمال بلاطة واللبناني سمير الصايغ، إلى جانب عائلته وأولاده. يحتفظ ابن أرناؤوط بأرشيف والده، بعد تحويله إلى أرشيف رقمي، ما سهّل التعرّف إلى تجربته الواسعة أمام طعان. تنقب الباحثة في كتابها عن السمات الحداثية في تجربة أرناؤوط، كما تلاحق سيرته المتشعبة؛ كتابة الشعر، وعمله على استخراج لغة بصرية معاصرة من الخط العربي، وابتكاره تقنيات غير مألوفة في تصميم الكتب المجلات منها مجلة «شعر»، وخلقه فونتات عربية جديدة. أدخل أرناؤوط الأشكال الهندسية كعنصر أساسي في عمله، «مستخدماً إياها بدقة عالية نظراً لغياب الكومبيوتر في ذلك الوقت». كما أنه كسر بعض الأطر والقواعد المتداولة. يتوقف الكتاب عند تصميمات أرناؤوط لبوسترات «معرض دمشق الدولي» السنوي، ورسوماته واسكتشاته في دفاتره، وعمله الشعري في كتاب «رماد على أرض باردة» (1976) وتصميمه لبعض الشعارات، كما يعود إلى مرحلة التكوين الفني في روما ثم باريس.
روان عز الدين
الاخبار