كثيراً ما توقّف آباء الكنيسة المقدسة من القديس أوغسطينوس إلى القديس توما الأكويني إلى غيرهم من مشاهير مُفسريّ الكتاب المقدس ، على توضيح ما أراد السيد المسيح بالتجديف على الروح القدس . وفيما نحاول ، مهتدين بأنوارهم ، تفهّم ما اراده السيد المسيح بقوله : “من جَدّف على الُروح القُدُس فلن يُغفَر لَهُ ” ، نسأله تعالى أن يجنّبنا الانزلاق في هذه الخطيئة في عصر كثر فيه التجديق على الله وعلى روحه القدوس ، وكثر فيه التنكّر للقيم الروحية والمبادئ الدينية السديدة .
١- في الطريق إلى أورشليم :
كان السيد المسيح في بيت عينيا حيث عرّج على مرتا ومريم وسمع شكوى الأولى من إهمال الثانية ورفض مساعدتها في القيام بواجب تحضير الضيافة له ، وترك البيت واتّجه نحو أورشليم التي تقع على مسافة ما يقارب الأربع كيلومترات . ولمّا قطع بعض المسافة وتلاميذه يسيرون خلفه ، توقّف فترةً لُيصلّي ، وأعجب التلاميذ منظره وهو يُصلّي فقالوا له : ” يارب ، عَلِّمناأن نُصلّي ” ( لوقا ١١ : ١ ) . فعلّمهم الصلاة الربية ، تلك الصلاة التي ندعو فيها الله : “ أبانا الذي في السماوات ” ( لوقا ١١: ٢ ) ، وأخذ يشرح لهم صفات الصلاة الحقة ومفاعيلها الناجعة ، واثناء حديثه أتوه بأخرس فيه شيطان ، فتوقّف عن الكلام “فلّما خرج الشيطان تكلّم الأخرس فأُعجِبَ الجُموع ” (لوقا ١١: ١٤ ) . وكان بين الناس جماعة من الكتبة وفدوا عليه من أورشليم . فلما رأوا الأعجوبة اغتاظوا وراحوا يذيعون بين الشعب ما سبق لهم أن قالوه عن المسيح في عيد المظال : “ فيه شيطاناً ” ، وأضافوا هذه المرّة أسم هذا الشيطان قائلين : “ أنه بعبل زبول ، رئيس الشياطين ، يطرُد و يخرج الشياطين “( لوقا ١١ : ١٩ ) .كانت الإهانة أكبر من السكوت عنها . وربما صدّق الناس من ذوي الضمائر السليمة ، أراجيف الكتبة فيبتعدون عنه ويصمّون الآذان عن سماع كلامه ، ،فلا يرون نور الخلاص . لذلك شاء السيد المسيح أن يدحض مزاعم الكتبة ويمزّق هذه الغشاوة من الأكاذيب التي يسترون بها الحقيقة عن عيون الناس فأفحمهم بقوله : ” إذا كان الشيطان يطرد الشيطان فيكون قد هدم سلطانه بيديه . وكل مملكة تنقسم على نفسِها تخرب وتنهار بيوتها بعضها على بعض . وإذا انقسم الشيطان ايضاً على نفسه فكيف تثبت مملكَتُه ؟ (لوقا ١١ : ١٧ – ١٨ ) . إذاً ، هو لا يطرد الشيطان بالشيطان بل بقوة الله ، ولا يقهر الشيطان إلا الله ، وقد غلب الشيطان على أمره منذ أتى السيد المسيح على الأرض. وشاء أن يبيّن خطورة موقف الكتبة منه ، وتعليمهم عما يأتيه من عجائب ومعجزات إثباتاً لألوهيته فقال : ” وكُلُّ من قال كلمةً على ابن الإنسان يًغفَر له ، وأما من جدّف على الرُوحِ القُدُس ، فلن يُغفر له ” .( لوقا ١٢: ١٠ ) .
فما معنى هذا القول؟
(يتبع)