وزعت البطريركية الانطاكية الاورثوذكسية كلمة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر لمناسبة بداية الصوم لدى الطوائف الشرقية، جاء فيه:
“إلى إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة، وأبنائي وبناتي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي، أيها الإخوة والأبناء الروحيون الأعزاء، يا من قوتهم بالرب تعالى ورجاؤهم به يقوي رجاءنا.
لنرتق بالصيام عن الأهواء الترابية ونرفع الرب الذي رفع على الصليب ورفع العالم ولنرتشف بحواسنا شراب الخشوع ولنتخذ في عقلنا ذلك اليوم الرهيب وتلك الساعة التي سننتصب فيها أمام الديان الأبدي .. ولنبهج الجسد بالصيام ولنوعب النفس بالفضائل ونغذ المساكين مبتاعين لنا غنى في السموات لا يزول ونصرخ هاتفين سبحوا الرب يا أعماله وارفعوه إلى الأدهار [1].
لعل الكلمات السابقة تختصر بحق لب الصيام وتختزل بقوة جوانب هذه الممارسة الكنسية. الصوم عند المسيحيين ليس تغنيا بعالم المثاليات بقدر ما هو تمثل بعالم الفضيلة. الصوم ليس انقطاعا عن القوت المادي بل هو إشباع للكيان البشري بقوت الروح. الصوم ترويض للروح عبر الجسد وروحنة للجسد بفضائل الروح. والصوم ليس كمالية في حياة المسيحيين بل هو حاجة وضرورة مغروسة في وجداننا منذ مطلع المسيحية. والصوم الأربعيني المقدس هو مسلك القيامة في جلجلة هذا العالم. وكم من جلجلة خبيئة في نفس منسية! وكم من قيامة مرجوة في وحولة ظروف! وكم من ضيق يكوي القلب يكويه ذكر اسم الرب وكم من أحزان يغسلها هذا الصوم الكبير وتطفئها ممارساته التقوية وصلواته!.
وقيامة المسيح تبتدىء أولا بالقلب المصلي عشاريا والنابذ لكبر وتشامخ الفريسي. فهذه هي اللبنة الأولى في درب القيامة. تواضع العشار المنسحق توبة وارتماء الابن الضال في أحضان الأب السماوي هما رسالة الأحدين اللذين تفتتح بهما الكنيسة درب قيامة النفس البشرية، هما بالأحرى الرايتان اللتان تضعهما الكنيسة نصب أعين من يطلب القيامة مع المسيح. ومسيرة القيامة معه تنجلي مراحم تجاه الجميع وتوقا لذاك الصوت الأبوي الذي نسمعه في إنجيل الأحد الثالث من التهيئة للصوم: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم (مت 25: 34). وصورة الاستعداد للصوم تكتمل بالتذكير في الأحد الرابع بأن الفردوس المفقود بخديعة آدم سيفتحه المسيح بحربته وصليبه الذي به شق درب المعصية وفتح طريق الخلاص بالغفران.
والكنيسة المقدسة وضعت في آحاد الصوم وأيامه زادا لكل منا. فها هو زاد أبينا البار أفرام السرياني، يدعونا أن نلفظ عنا روح البطالة والفضول وحب الترؤس والكلام الباطل وذلك لنجوب عمق بحر هذا العمر بروح العفة واتضاع الفكر والصبر والمحبة، شراعا واحدا إلى عالم الملكوت. وفي لجة هذا الصوم تسمع الملائكة صوت النفس يناجي الخالق ويخاطبه من رحم الضيق: يارب القوات كن معنا فليس لنا في الأحزان معين سواك. وصوت النفس هذا يغتذي بنور الأيقونة في الأحد الأول ويكتنز في الآحاد التالية بوهج النعم الإلهية التي تقدس الكيان وبقوة الصليب الكريم الذي يسند ضعفنا في انتصاف مسيرة الصوم لنغرف شيئا من خبرة السلمي يوحنا ونختبر الفضيلة سلما ترتقي إلى الله ونعود بانسحاق القديسة مريم المصرية لنقف بالروح أطفالا حاملين سعف الفضائل في أحد الشعانين ونتأمل الرب مصلوبا ودفين قبر ومزيحا الحجر وقائما ومقيما بنوره الجبلة البشرية التي عصت وصيته، أي الإنسان الذي أحبَّ وبذل نفسه عنه.
صلاتنا في هذه الأيام المباركة من أجل السلام في سوريا والاستقرار في لبنان. صلاتنا من أجل سلام هذا الشرق والعالم كله. صلاتنا من أجل عودة المخطوفين ومنهم أخوانا مطرانا حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي اللذان يدفعان مع كثيرين من أحبتنا ضريبة قساوة هذه الأيام، والتي على الرغم من قساوتها، ليس لنا أن تنيخنا تحت سندان التجربة لأننا أبناء قيامة مهما طال درب جلجلتنا ولأننا مغروسون في أرضنا رغم وحولة التاريخ ولأنها مغروسة في قلبنا مهما بعدت المسافات.
صلاتنا اليوم إلى رب السلام أن يعطي السلام لهذا المشرق. صلاتنا أن يطفىء الله بسكينته الإلهية كل إرهاب وعنف وخطف وتهجير طال منا الكثيرين. صلاتنا إلى الديان العادل أن يزرع في القلوب الرهبة أمام دينونته العادلة التي لن تستثني أحدا. صلاتنا أن يزيح الله من القلوب كل تكفير للأخ الآخر وأن يجدد في خليقته بذور السلام.
من الكاتدرائية المريمية بدمشق نبعث بالبركة الرسولية إلى كل أبنائنا الأنطاكيين في الوطن وبلاد الانتشار ونسأل لهم من الرب القدير كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة من لدن الله أبي الأنوار ونطلب ونضرع أن يسبغ الرب مراحمه على كل الناس ويديم في العالم كله روح سلامه الحق، له المجد والرفعة إلى أبد الدهور آمين”.
وطنية