لا غلوّ في وصف زيارة بطريرك الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية يوحنا العاشر لروسيا بأنها مهمة. هي المرة الثانية يزور يوحنا العاصمة الروسية موسكو وكنيستها ومؤمنيها، والامر دليل على رغبة في مد المزيد من جسور التواصل بين الكنيسة الانطاكية وروسيا بوجهيها الديني والمدني، ودليل على عمق العلاقة التي نسجها البطريرك الانطاكي مع الكنيسة الروسية واستطراداً مع الدولة الروسية، التي أعادت إرساء مفهوم التزام مواقف الكنيسة الروسية السياسية والتفاعل معها ضمن إطار الحفاظ على المصالح الروسية الوطنية وفي العالم، وخصوصاً في ضوء الموقف المعروف الذي اتخذته روسيا، دولة وكنيسة، من الصراع في الشرق الاوسط، والذي يتهدد تحديداً الوجود الارثوذكسي بالاقتلاع في أكبر حواضر الارثوذكس الانطاكيين، سوريا ولبنان.
أنقسمت مواقف المسيحيين الارثوذكس سواء في لبنان أو في سوريا بداية الاحداث هناك، بين الدعوة الى الحياد، وتأييد التغيير تحت عناوين الديموقراطية وتداول السلطة، في حين نظر بعضهم بحذر الى “الربيع العربي” والغموض الذي يحمله معه، وخصوصاً الموقف من الاقليات. وأتى تسلسل الاحداث في مصر وتونس وبروز خطوات “أسلمة” الانتفاضات وسيطرة تيار “الاخوان المسلمين” والسلفيين ولاحقاً التكفيريين، أضافة الى خطف المطرانين بولس يازجي ويوحنا ابرهيم، ومهاجمة بلدات معلولا وصيدنايا وكسب وصدد وتهجير السريان والاشوريين والكلدان من منطقة الجزيرة السورية، في موازاة اقتلاع الوجود المسيحي من سهل نينوى في العراق ليدفع الغالبية الساحقة من الارثوذكس الى موقف معاد “للثورات العربية والحراك المعارض للانظمة، بدءاً من سوريا، ولم تجد مناشدات القيادي السوري المعارض ميشال كيلو، ولا مواقف المعارض جورج صبرا في طمأنة مخاوف المسيحيين، وخصوصاً بعد حملات التطهير الديني لـ”داعش” و”النصرة” في مناطقهما، وبدء خطوات تطبيق الشريعة بأقصى تجلياتها في المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيمين المتشددين.
تصرف رأس الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية بحكمة في مواقفه من “الربيع العربي” والهجمة على المسيحيين، ولم يتبنَّ البطريرك يوحنا عند بداية الاحداث في سوريا مواقف بعض المطارنة والعلمانيين المغالين في تأييد النظام والداعين الى حمل السلاح، بل أصرّ البطريرك على الدعوة الى التشبث بالارض وعدم الهجرة، ومواجهة الايام الصعبة. وحتى بعد خطف شقيقه مطران حلب استمر يوحنا العاشر هادئاً وحكيماً في تعامله مع الحرب السورية والهجمة على المسيحيين فيها. وعندما زار رأس الكنيسة الروسية البطريرك كيريل سوريا مطلع الاحداث، كانت مواقفه المؤيدة للنظام السوري واضحة جداً وانعكاساً لسياسة الكرملين المتشددة في تأييد النظام السوري. لكن يوحنا العاشر أستمر هادئاً في تصريحاته وفضل العمل على الارض ميدانياً، سواء بمساعدة المهجرين واللاجئين أو بطمأنة المعرضين للهجمات في حلب ومحردة وصدد، بديلاً من اطلاق التصريحات وأثارة المخاوف والغرائز الطائفية في بلاد سقطت فيها كل المعايير، واندفع الغرب في سياسة افراغ الشرق من المسيحيين ومنحهم سمات الهجرة والوعود بالحياة الهانئة تعويضاً للخلل الديموغرافي والاجتماعي في مجتمعاته الهرمة.
جال البطريرك يوحنا في أنحاء العالم، وخصوصاً فرنسا، طالباً مساعدتها في قضية المطرانين المخطوفين، من دون جدوى، وكذلك في شأن المساعدات الانسانية للاجئين السوريين ومن ضمنهم المسيحيون، لكن الدعم الاكبر الذي وجده المسيحيون المشرقيون تمثل في الدعم الروسي، لا لجهة حجم المساعدات الانسانية وكميات المؤن التي تم تقديمها الى الهاربين من جحيم الحرب السورية وغزوات “داعش”، بل لجهة الدعم المعنوي والسياسي الروسي لتعزيز البقاء في الارض والصمود ميدانياً في مواجهة عوامل التهجير الضاغطة بقوة على المسيحيين. والاهم، أن البطريرك الانطاكي الارثوذكسي، في اطار سياسة التماهي والتقارب مع موسكو وكنيستها ودولتها، أنما يكسر تقاليد بالية من العلاقات العديمة الجدوى والنفع بين الغرب ومؤسساته ومسيحيي الشرق، الذين دفعوا غالياً ثمن علاقة “عاقر” لا تقدم ولا تؤخر، وهذا الكلام كله لمصادر رفيعة في الكنيسة الشرقية، تؤكد أن التحديات التي يواجهها مسيحيو الشرق وكل الاقليات لا يمكن مواجهتها بسياسة النعامة.
بيار عطالله / النهار