ولد البابا يوحنا بولس الثاني أو كارول فويتيلا في 18 أيار 1920 في بلدة صغيرة قريبة من كراكوف في جنوب بولونيا. تلقى وشقيقه تربية عسكرية في كنف والدهما الذي كان ضابط صف في فوج المدفعية السادس والخمسين في جيش الامبراطورية النمساوية – المجرية.
فقد كارول فوتيلا والدته وهو في التاسعة عشر من عمره ومن ثم شقيقه ووالده، شهد أهوال الحرب العالمية الثانية ومآسيها يافعاً. بلاده التي كان يعيش فيها نحو 40 مليوناً، كانت أرضاً ترشح حزناً في ظل تعاقب نظامين توتاليتاريين: النازية التي قتلت في بولندا أكثر من ستة ملايين شخص خلال ست سنوات، والستالينية التي جاءت تكمل مآثر سابقتها ظلماً وقمعاً.
اصغر الباباوات سناً
الشاب المفعم بحب الحياة اختار الكهنوت، وسيم كاهناً في كراكوف في الأول من تشرين الثاني 1946. عام 1958 رقي إلى رتبة الأسقفية، وبعد ذلك بست سنوات اختير رئيساً لأساقفة كراكوف. وفي 16 حزيران 1967 رقاه البابا بولس السادس إلى رتبة كاردينال. في آب عام 1978 توفي البابا بولس السادس وبعده بنحو شهر انتخب البابا يوحنا بولس الاول، وشارك الكاردينال فويتيلا في الانتخابات مع مجمع الكرادلة وكان له من العمر 65 عامًا فقط. لكن يوحنا بولس الأول توفي بعد 33 يومًا فقط مما استدعى خلوة انتخابية جديدة.
بدأت الخلوة الانتخابية الثانية في 14 تشرين الاول 1978 بعد عشرة أيام من جنازة البابا يوحنا بولس الأول، فاستطاع فويتيلا حشد أكثر من ثلثي الأصوات في جولة الاقتراع الثامنة التي تمت في اليوم الثاني من الخلوة، واستطاع الفوز بتسعة وتسعين وصوتًا من أصل 111، وقد اختار اسم يوحنا بولس الثاني تكريمًا لسلفه الذي لم تطل حبريته.
بعد ذلك، أطلق الدخان الأبيض التقليدي، وأبلغ الحشود في ساحة القديس بطرس نبأ اختيار البابا، وكانت كلماته الأولى: “بالطاعة الجيدة للمسيح، وبدوام الثقة بوالدته العذراء والكنيسة، وعلى الرغم من الصعوبات الكبيرة، فأنا أقبل”. وعندما أطل البابا من على شرفة طابق التبريكات في كاتدرائية القديس بطرس، كسر التقليد من خلال تصريحه للجمع.
في 16 تشرين الاول 1978، عندما أعلن انتخاب فويتيلا بابا عم الذهول، كان يومها أشبه بجندي مجهول، لكن هذا “الجندي المجهول”، والذي كان أصغر البابوات سناً، لم يتأخر في النزول إلى ساحات العالم ليصبح قائداً عالمياً بامتياز.
تغييرات جذرية في الكنيسة
كان يجيد الإيطالية والألمانية والإنكليزية والإسبانية والبرتغالية والروسية والكرواتية إلى جانب اللاتينية والبولندية لغته الأم، وفي عهده تركزت الأنظار نحو الكرسي الرسولي. فقد انطلق من روما الى العالم ليلاقي المؤمنين في أصقاع الأرض، عندما زار البابا يوحنا بولس الثاني بلده الأم بولونيا في السابع من حزيران 1979 كان هذا البلد رازحاً تحت وطأة الحكم السوفياتي. في تلك الزيارة ردد البابا كلمات: الحرية، الحقيقة، الإيمان. بعد عام من ذلك انفجر صاعق الثورة ولم تنطفئ الشرارة إلى أن فتحت بولونيا فجوة في خاصرة الحكم السوفياتي، اتسعت ووصل زلزالها الى المانيا فكان سقوط جدار برلين في آخر الثمانينيات. كان دور البابا مهماً في إحداث التحوّل ليس فقط في أوروبا الشرقية وإنما أيضاً في بلدان أخرى. سلاحه في مقاومة السلطات العنيفة والمتسلطة، كان بضعة كلمات والكثير من الصلاة.
في 13 أيار 1981، عيد سيدة فاطيما، تعرّض لإطلاق النار في ساحة القديس بطرس وأصيب برصاص شخص تركي اسمه محمد علي أقجا بينما كان يميل لتحية الجماهير. وبعد فترة طويلة من وجوده في المستشفى، التقى البابا بالتركي الذي أطلق عليه الرصاص، وأبلغه أنه صفح عنه طبقا لتعاليم السيد المسيح، وغمره بشدّة.
تميّز يوحنا بولس الثاني بنظرته إلى الإنسان وجوهر علاقته بالله وهو من موقعه كرأس الكنيسة الكاثوليكية لم يحصر رسالته بالكاثوليك، بل جعل هذه الرسالة منفتحة على الإنسان إلى أي ديانة انتمى.
تعزيز التواصل بين الاديان
النزعة الإنسانية عند يوحنا بولس الثاني تخطّت الانفتاح والسعي إلى تعزيز التواصل بين مختلف الأديان. فهذا البابا الشجاع قدّم صورة عن مسيحية انجيلية غير متغطرسة تطلب المغفرة عن بعض الإساءات التي قامت بها الكنيسة الكاثوليكية في مراحل سابقة. ففي العام 2000 طلب البابا الغفران من جميع من أساءت إليهم الكنيسة سواء كانوا من أبنائها الذين حوكموا بعض الأحيان ظلماً، أو من المسيحيين غير الكاثوليك الذين تعرّضوا للاضطهاد، أو من المسلمين بسبب الحروب الصليبية، أو من اليهود نظراً إلى شعور اللاسامية الذي حمله لهم بعض المسيحيين.
وفي أيار 2000 كشف الفاتيكان أن ثلاثة أطفال في البرتغال شاهدوا في العام 1917 رؤية كانت بمثابة نبوءة بمحاولة الاغتيال، وأطلق على ذلك السر الثالث من أسرار فاطمة – نسبة إلى البلدة في البرتغال التي ينتمي إليها الأطفال الثلاثة – وهو الأمر الذي أبقي طي الكتمان عقودا، وتم الكشف عنه تزامنا مع زيارة للبابا إلى تلك البلدة. ويعتقد البابا أن العذراء مريم أنقذت حياته لاستمرار خدمة ابنها. وبعد محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني تم تشديد إجراءات الأمن المحيطة برأس الكنيسة الكاثوليكية، وكان الأخير وراء سقوط الشيوعية في شرق أوروبا.
لبنان نموذج للعيش المشترك
زار بلداناً عديدةً ومنها لبنان عام 1997 فقد كان للبنان في وجدان البابا موقعا مميزا، وتقديرا كبيرا لصيغته الفريدة التي تقدّم نموذجاً للعيش المشترك بين الديانات والثقافات المتنوعة. من هذا المنطلق، اعتبر أن لبنان أكثر من وطن فهو رسالة.
في العام 1994 وبعد الانفجار المروع الذي حصل في كنيسة سيدة النجاة، دعا البابا إلى عقد سينودس خاص في الفاتيكان من أجل لبنان، وقد أصرّ على أن يحضره ممثلون للطوائف الإسلامية اللبنانية، ليس بصفة مراقبين فحسب، ولكن بصفة مشاركين. شكّلت تلك الدعوة سابقة في تاريخ مؤتمرات السينودس التي عقدها الفاتيكان حتى ذلك اليوم، إذ لم يسبق أن دعي إليها مسلم. كما أنها كانت المرة الأولى التي يعقد فيها سينودس خاص ببلد معين، فالمجامع كانت تخصص للقارات.
وفي العام 1997، كانت زيارة البابا إلى لبنان تتويجاً لجهوده من أجل هذا البلد. وقد جاء الإرشاد الرسولي ليعلن أن “الكنيسة الكاثوليكية تريد الانفتاح على الحوار والتعاون مع مسلمي البلدان العربية، ولبنان جزء لا يتجزأ منها، وفي الواقع أن مصيراً واحداً يربط المسيحيين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة”.
أول بابا يزور مسجداً…
يحتفظ التاريخ ليوحنا بولس الثاني بكونه أول بابا في التاريخ تطأ قدماه مسجدا في بلد مسلم، إذ تم ذلك أثناء زيارته سوريا في العام 2001. وكانت حياة البابا تعرّضت في السنوات الأخيرة لانتكاسات صحية عدة، وخضع لعمليات جراحية عدة، منها عملية أجريت له في القصبة الهوائية، كما أن إصابته بداء الباركنسون زادت من سوء حالته.
في نيسان 2005 توفي البابا يوحنا بولس الثاني وقد أعلن في الأول من أيار 2011 تطويبه في احتفال حضرته الراهبة الفرنسية ماري سيمون بيار نورمان التي عانت من مرض الشلل الرعاش وكان شفاؤها معجزة نسبت إلى البابا المذكور.
استمرت رئاسة يوحنا بولس الثاني للكنيسة الكاثوليكية 26 عاماً، وقد رَفَعَ الى مرتبة القداسة في عهده 482 شخصا خلال 51 احتفالاً، وطوّب 1338 شخصاً خلال 147 احتفالاً، بينهم:
-القديس اللبناني نعمة الله كساب الحرديني الّذي اعلنه طوباويًّا في 10 أيّار 1998، بعد تثبيت أعجوبة شفاء الشابّ أندره نجم، من مرضه السرطانيّ. وأُعلنه قدّيسًا للكنيسة الجامعة في 16 أيّار 2004، بعد تثبيت أعجوبة شفاء السيّدة روز سعد من العمى.
-القدّيسة رفقا اللبنانية الّذي أعلنها طوباويّة في 17 تشرين الثاني 1985. ليعلنها بعد ذلك قُدوة ومِثالاً في عبادتها للقربان الأقدس، لليوبيل القربانيّ لعام 2000. وليرفعها البابا نفسه قدّيسة على مذابح الكنيسة الجامِعة في 10 حزيران سنة 2001.
وها هو اليوم يُرفع أيام رئاسة البابا الأرجنتيني الأصل فرنسيس الأول الى مرتبة القداسة…
باسكال أبو نادر – خاص النشرة