برصاصتين في الرأس، قُتِل الاب فرانز فاندرلوخت، استُشهد في ديره. الأب باولو دالوليو خُطِف، ولا اثر له من 11 شهراً. آخرون هُدِّدوا، يُهَدَّدون، يعيشون “تحت النار”، على الجمر، ملايين المسيحيين، ويجازفون. الآباء اليسوعيون في الشرق: الرسالة تستمر في اخطر الاماكن، وان كان الثمن دماً. عند مدخل مكتب الرئيس الاقليمي على الرهبانية اليسوعية في الشرق الادنى والمغرب العربي الاب فيكتور اسود، تذكّر صورة كبيرة للاب فرانز بالثمن الاحمر الغالي. ايا يكن، يبقى الجواب واحدا: “مواصلة البناء”… و”الله حامينا وراعينا”… و”علينا الا نخاف”، يقول اسود.
لقد “مات، كما عاش”، يعلّم فرانز بحياته واستشهاده. ما يتذكره اسود عن هذا الراهب الهولندي الذي احب سوريا كثيرا، ان “كل حياته كانت تضحية مستمرة، تضامنا مع الناس، التزاما مع الشعب الذي أًرسِل اليه. كان شهادة مسيحية انسانية عميقة جدا… احبّ هذه الارض، وصارت ارضه… وكان همّه ان يكتشف الناس ان التعددية الطائفية في سوريا غنى، وليست حدودا. وجملته الشهيرة: لا ارى امامي مسلما او مسيحيا، بل انسانا”. واذا كان فرانز “ضحية عنف الانسان وجهله وخطيئته”، فان اترابه يتعزون “بانه احب حتى النهاية، كالمسيح، وبذل نفسه مثله. وكان قابلا لذلك بسلام داخلي، وحتى بفرح”. قبل استشهاده بايام قليلة في نيسان الماضي، افضى فرانز الى رئيسه الاقليمي، في اتصال هاتفي، بما في القلب: “ابونا فيكتور، لا تقلق عليّ. انا بسلام داخلي، بفرح. يعتقد الناس انني اتعذب، لكنني بسلام وفرح”.
كان معروفاً ان فرانز مهددٌ في ديره، حتى بالجوع. “قيل لي ان اطلب منه مغادرة الدير، بامر الطاعة. غير انه، بإثارتي هذا السؤال مع مستشاري، رست الآراء على ان فرانز قَبِلَ ان يكون مع ناسه. انها رسالتنا. واذا كان قَبِل ذلك بحريته، فذلك يؤكد رسالتنا ويكمّلها، حتى لو توجب علينا دفع ثمن لها”.
من اللحظة الاولى التي تطأ الرِّجلُ عتبة الدير، تصبح “حياة الراهب موتا عن الذات والعالم”. يقول اسود: “باتباعنا المسيح واقتدائنا به، نقبل ان تكون حياتنا مهدورة، حبا بالناس والله. لا تراجع، لا نفتش عن الاستشهاد او نفتعله، ونحاول ان نكون متنبهين، ولا نعرّض حياة اي من الرهبان للخطر، من دون تفكير او حكمة. لكن اذا جاء الاستشهاد، نقبله”.
وكالاستشهاد، جاء ايضا الخطف بلا استئذان، ليأخذ آخر، الاب دالوليو الايطالي، رجل الحوار والبناء. “للاسف، لا جديد في شأنه، ولا اي دليل لدينا عن اي شيء. الشائعات كثيرة حول مصيره، وآخرها انه ربما قتل في اول ساعتين من خطفه. لا تأكيد لدينا. وللاسف يمكن ان يكون ذلك صحيحا. غير انه لا يمكن ان نؤكد شيئا”.
قتل، خطف، تهديد… ايا يكن، فاليسوعيون مستمرون، باقون. “اليوم ندرك اكثر الحاجة الى ان نمد يدنا الى كل انسان، ان نهدم الجدران التي تفرقنا، والا نترك بيننا عدم التفاهم وعدم الثقة والتعصب. يمكن القول اننا نواجه تعصبا، وان هناك من لا يقبلون الحوار، ونسأل كيف نعيش معهم… غير ان الحقيقة التي نؤمن بها تجعلنا نسير بهذا الرجاء، ان نمد يدنا الى الآخرين… تجاه خطيئة الانسان ورفضه، لا يمكن ايماننا الا ان يعيش مزيدا من الانفتاح والعطاء والحب والحوار. وهذا يؤكدنا في دعوتنا وضرورتها”.
الشرق ينزف مسيحيين، فهلّا يزال ارضا صالحة ليزرع فيها اليسوعيون الكلمة ويواصلوا البناء؟ “نحن قلقون جدا من تراجع عدد المسيحيين في الشرق. انه همّ كبير. لذلك يجب ان تكون لهم ضمانات، كجماعة اقلية… اليوم نؤمن بضرورة ان تعتبر المجتمعات في بلداننا ان كل مواطنيها متساوون في الحقوق والواجبات… والمسيحيون موجودون في هذا الشرق، حتى قبل الاسلام. كانوا فيه، واستقبلوا الدين الاسلامي وتعاملوا معه. ونحن واثقون بان تعايشنا او وجودنا في هذه الارض ليس لامتيازات شخصية، بل نؤمن بان لدينا رسالة الى جانب المسلمين…”.
ولكن ثمة مسيحيين يقولون اليوم بوجوب عيش المسيحيين من دون المسلمين، حماية لهم من الاسلام المتطرف المضطهد. يجيب: “هذا التفكير غير حقيقي. في المناطق ذات الطابع المسيحي فقط، الملاحظ ان نوعية الايمان والالتزام المسيحي يخفان. غير انه بالتعايش مع الآخر المختلف، نعيد اكتشاف خصوصيتنا، ملحنا الخاص. يقول المسيح: “انتم ملح الارض”، اي ان المسيحي موجود كي يكون بين الآخرين، ليعطي المذاق. واذا زدنا الملح، “مْنِنْزَع الطبخة”. واعتقد ايضا ان اخوتنا المسلمين يخرجون ما لديهم من جميل باحتكاكهم بغير المسلمين، وذلك يجعلهم يدركون كم ان ايمانهم منفتح على الآخر”.
واثق اسود بان “التعايش ممكن” مع من يسميهم “المسلمين الحقيقيين”. “الانفتاح على العالم العربي الاسلامي” اول “بُعد” من ابعاد ثلاثة حددها اليسوعيون لعملهم في الشرق. “كيسوعيين، علينا ان نكون، ضمن الكنيسة، النافذة المفتوحة على العالم العربي الاسلامي، اي ان نمثل انفتاح الكنيسة عليه”.
البعد الثاني يتقضي المساهمة في بناء المجتمع المدني. “من الضروري تربية حسّ المشاركة والانغماس والمسؤولية لدى الناس، كي يمارسوا دورهم كمواطنين، ويتنبهوا الى العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية وحقوق الانسان”، يشدد اسود. وفي البعد الثالث، رغبة رهبانية كبيرة في “السعي اكثر الى تحقيق المصالحة والسلام، خصوصا في هذه البقعة من العالم… نشعر بضرورة ان نكون رسل مصالحة وسلام”.
مشروع برؤيا واضحة. ولكن هل يشكل ازعاجا لبعضهم؟ يجيب: “يجب ان نكون امناء لدعوتنا. لا اعتقد اننا نزعج احدا او نهدد ايا كان… علينا ان نكون امناء لرسالة المسيح الذي كان نبيًّا وأزعج احيانا، وقد أحبَّ من اراد قتله… وحتى لو قيل اننا نزعج، ففي الحقيقة لا نريد ازعاج احد. بائع السلاح نفسه يفتش عن الصلح والسلام الداخلي. ويسوع المسيح هو مخلصه قبل ان يكون للآخرين، وقد جاء من اجله”.
“الى الامام” كان يقول فرانز. “شعاره هذا يختصر حياته التي كانت فعل رجاء”، في رأي اسود. وبهذا الجو، يكمّل اليسوعيون، وجوابهم عن مآسي الشرق: “مواصلة البناء”، هذا البناء “الذي يحفز على التمسك بالارض”. والاتكال على الله، “فهو حامينا وراعينا… وعلينا الا نخاف”.
هالة حمصي / النهار