لم تعد السلطة الرابعة بغريبة على الخطاب العربي، حيث أصبح الاهتمام بالإعلام وأثره ودوره بارزاً وجلياً وأحد مرتكزات الدمقرطة والإصلاح العربي الناجز. وباتت دول عربية كثيرة تتحاشى أن توصف بأنها في حالة تناحر مع الإعلام وحرية التعبير وحقوق الصحافة.
إن وسيلة إعلامية مثل قناة الجزيرة قد ارتبطت بدخول عهد جديد لدولة قطر في المحيط العربي والعالم، وارتبط ذلك الدخول بتلك المحطة. باتت الجزيرة وقطر وجهين لعملة واحدة.
ولكن ظل دور هذا الإعلام وما يحيط به، وما يدور في بيت الإعلاميين مقاربة من عجينة هلامية لا يعرف أولها من آخرها، ولا مقدار تأثيرها وكيفية حساب حضورها. وبقيت وبشكل هام مسائل كلف وسائل الإعلام تلك، وكيف يتخذ القطاع الخاص قراراً بدخولها، أولاً وبشكل أساس لكونها استثمارا تجاريا، بعيدة عن حساب الدفتر والقلم.
وبغياب تلك الحسبة، برزت توليفة أخرى في صناعة الإعلام العربي ليست بالجيدة، وهو الإعلام المتكئ على طرف حكومي، أو ترتيبات الإعلام ''نص نص''. يتجه شخص أو مجموعة من الإعلاميين إلى دولة عربية وغالباً ما تكون نفطية خليجية كانت أو شمال إفريقية، ويحظى بدعمها ويكون الشرط غير المكتوب بين الطرفين هو حصول الشخص على حرية الحديث عن كل الدول العربية عدا تلك الدولة، ويضمن المصدر النفطي بدوره تمويل المؤسسة. وبغض النظر عن التقليد الرديء الذي ينشأ بعيداً عن البيئة الصحية للصحافة في مثل هذه الترتيبات إلا أن ذلك كان هو المتاح والممكن وجزءاً من إرث نشوء الصحافة والإعلام في منطقتنا.
كان نشوء مشروع صحفي هو بمثابة طلقة في الهواء: فلا أبحاث تسويق، ولا دراسات جدوى حول الإعلام العربي، وقدرته على تحقيق الربح. وبدون الربح لا ضمانة للاستقلال، وبدون الاستقلال لا إعلام حقيقي. وهو ما عانت منه وتعاني منه بعض أبرز المؤسسات الإعلامية العربية إلى يومنا هذا. والعديد منها له قدم بالكار لسنين أو لربما لعقود.
ودراسة دبي تفيد كأحد المداخل لحل تلك المعضلة الخانقة. ويمكن قراءة مادتها لبدء عمل مديد يمكّن المستثمر العربي من اتخاذ قرار واعٍ ومدروس فيما إذا كان سيتقدم لإنشاء مشروع إعلامي جديد أو يتوقف. وهي توفر مادة لرجال الأعمال البعيدين عن الإعلام، ولكن يمتهنون الاستثمار وهم مستعدون للإقدام إن وجد المنطق المالي والاستثماري لتحقيق الربح، سواء كان ذلك في مؤسسة للمنتجات الغذائية، أو في مشروع إعلامي أو بشركة لإنتاج الطاقة. تنتهي المسألة على مكتبهم وقبل اتخاذ القرار إلى أرقام. ووجود مثل تلك المادة بين اليد تمكن هؤلاء المستثمرون من التفاعل مع جوانب الاستثمار بمعرفة أكبر وبثقة في النفس أوسع لشعورهم بأن إطلالهم على مثل تلك المادة المكتوبة يضعهم في موقع أكثر تمكناً لاتخاذ القرار.
وهي بهذا الدور تفيد أيضاً المؤسسات القائمة والتي يترنح بعضها تحت وطأة المصاعب المالية دون أن يتمكن من اتخاذ القرار المناسب فيما إذا كان سيواصل أو سيتوقف، يطوّر أم يقلّل.
ويطل التقرير على الجوانب المالية، ومصدر الربح، وبالتالي مبرر استمرار المشروع الإعلامي. وحسب استنتاجات الدراسة، ليست كل الأخبار سيئة، وليس من أساس لكثير من تذمر الإعلاميين ولمبررات شركات إعلامية تخسر. فالأضرار التي لحقت بالصناعة الإعلامية العربية ليست بالكبيرة مقارنة مع تلك القائمة بالأسواق المتطورة والناشئة. فهي محدودة من جانب، بل وتشير كل الظواهر إلى أنها سرعان ما ستستعيد صحتها.
وهذا يضع المسؤولية على الجهات المالكة والهيئات الإدارية التي تقود المؤسسات الإعلامية القائمة. الأزمة أصابت الكل، والسؤال لم يعد كيف يمكن تفاديها، ولكن كيف يمكن العمل في ظلها والعمل على استكشاف ما تحمل معها من فرص، والتعامل مع السلبيات التي جلبتها للسوق.
يوفر التقرير بذلك مقياساً متجرداً ليستفز القائمين على دوائر الإعلان بالمؤسسات الإعلامية، لكي يديروا الفكر ويبدأوا في العمل للحصول على حصتها من إنفاق اجتماعي محدد وملموس وقائم وقابل للازدياد. والمطلوب هو خلطة من الوعي بذلك، والنشاط وإقامة شبكة العمل اللازمة.
المِرّي: التفاؤل الحذر
يحتوي التقرير إضافة إلى مادة الدراسة على بعض رؤى خاصة. فمنى المري رئيس نادي دبي للصحافة تشير إلى أن قطاع الإعلام قد شهد خلال الفترة الماضية تغيرات لم يسبق لها مثيل في المنطقة العربية والعالم أجمع. وفي غضون فترة قصيرة لم تتجاوز العام منذ الإصدار الثاني لتقرير نظرة على الإعلام العربي، شهد الاقتصاد العالمي تحولات جذرية صدمت حتى أكثر المراقبين تشاؤماً. ولم تكن صناعة الإعلام بمنأى عن تأثيرات مثل هذه الظروف.
ولذلك اتسمت اللهجة العامة للتقرير بالتفاؤل الحذر. إلا أن المري أعربت عن ثقتها بأن صناعة الإعلام في المنطقة العربية تمتلك أسساً قوية بما يكفي ليس فقط للصمود في وجه العواصف، وإنما للمضي قدماً، والتعلم من دروس الماضي، وتصويب الأخطاء.
وتورد المري كأحد الأمثلة للتفاؤل الحذر أن الإعلام المطبوع في المنطقة شهد تغييرات هيكلية كبيرة في هذه الأوقات العصيبة، إلا أنه تجاوز العاصفة بشكل أفضل من الأسواق الأخرى، وذلك مع الارتفاع المستمر لأعداد التوزيع اليومي وانطلاق عناوين جديدة. وقد ساهمت قوانين الإعلام الجديدة التي خرجت إلى حيز الوجود في بلدان عدة في دعم هذا النمو. وكانت عائدات وسائل الإعلام المطبوع أكثر استقراراً ومرونة من معظم الأسواق الأخرى.
إلا أن نمو الإعلام المطبوع لم يقف في طريق مواكبة العالم الرقمي، وأظهرت الشعبية الواسعة لشبكات الإعلام الاجتماعي وجود توازن صحي بين وسائل الإعلام التقليدية والوسائل الرقمية. إلا أن هناك قلقاً لا يزال حول تحقيق عائد مادي من المحتوى الإلكتروني، إلا أن هناك تجارب ناجحة ومبشرة لنماذج يتم اعتمادها لتعزيز العائد المادي للمحتوى الإلكتروني على نحو فعّال.
بن فهد: المحتوى العربي
وكتبت مريم بن فهد المدير التنفيذي لنادي دبي للصحافة أن إصدار هذا العام كان أكثر شمولية وعمقاً من سابقِيه، ويأتي مدعوماً بدراسة خاصة مكثفة حول تغيير أنماط الاستهلاك الإعلامي في أربع أسواق إعلامية مهمة في المنطقة تشمل الإمارات والسعودية ومصر ولبنان، وتوسع نطاق تغطية التقرير ليشمل 15 دولة عربية هي: البحرين ومصر والأردن والكويت ولبنان والمغرب وعمان وفلسطين وقطر والسعودية وسوريا والسودان وتونس والإمارات واليمن.
وتشير بن فهد إلى أن الإصدار السابق قد نشر بعد وقت قصير من بدء الأزمة المالية العالمية، فلم يترك مجالاً واسعاً لإدراج تحليلات مفصلة لتأثير الأزمة على صناعة الإعلام. فعوض الإصدار الحالي ذلك بتقديم تقييم أكثر شمولية وتركيزاً، وبالطبع فالآثار المترتبة على الأزمة المالية تختلف من دولة لأخرى، حيث يتوقف ذلك على مدى علاقة كل سوق ومستوى تعرضها للأسواق العالمية.
وأوردت كيف اعتمد التقرير على مقابلات مع ممثلي 125 مؤسسة إعلامية بالبلدان المغطاة، فقدم ممثلو تلك المؤسسات آراءهم، وكانت بغالبيتها إيجابية حول الآفاق المستقبلية لصناعة الإعلام بالمنطقة رغم التراجع الاقتصادي، وارتفاع معدلات تفضيل المحتوى العربي المحلي في البلدان التي تنتج محتوىً محلياً كمصر ولبنان، مما يشير لاتجاهات جديدة بصناعة الإعلام ولدى مستهلكي المنتج الإعلامي.
ساغوتو: صناعة الإعلام العربية قوية
ويورد سانتينو ساغوتو العضو الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لفاليو بارتنرز (الشركة المشاركة في إعداد التقرير مع نادي دبي للصحافة) أن التقرير يشتمل على دراسة حالة وهي عملية قيّمة اختيرت بانتباه كبير لتشكل وسيلة للمقارنة بين تطورات صناعة الإعلام في المنطقة العربية وتلك الموجودة بالأسواق الدولية المتقدمة والناشئة. وتفيد تلك الدراسة بأن صناعة الإعلام بالمنطقة العربية تملك إمكانيات قوية للنمو على مختلف المستويات، بما في ذلك استغلال الموهبة، وإنتاج المحتوى، والاستهلاك عبر مختلف المنصات، وتحقيق عوائد مادية. ومن المتوقع أيضاً أن تستفيد صناعة الإعلام من وجود أعداد كبيرة من السكان من فئة الشباب، وذلك بسبب قدرة هذه الفئة على قيادة وتحفيز عملية تطوير المحتوى في عالم متعدد المنصات مع الحفاظ على القيم والثقافة والتراث في العالم العربي.
اقتصاديات الإعلام والإعلان
استقيت النتائج الواردة بالتقرير من 125 شخصاً من خبراء القطاع، بالإضافة إلى نموذج توقعات حل أنماط الاستهلاك الإعلامي في مصر ولبنان والسعودية والإمارات بشراكة مع شركة نيلسن، واشتملت الأبحاث على 400-500 شخص من كل دولة.
ويتطلب التقرير والتوقعات مراجعة دورية، ولاسيما بالنظر لتسارع التغيرات التي تؤثر على صناعة الإعلام عالمياً وإقليمياً، بما في ذلك العولمة، وتطور شبكة الإنترنت، وطرح هواتف نقالة جديدة وتأسيس مناطق إعلامية جديدة. وقد تضمن التقرير النهائي جميع هذه الاتجاهات الذي يشكل قاعدة لرصد عملية التقدم والتطور بالقطاع الإعلامي، تحسباً للاتجاهات المقبلة.
تأثرت اقتصاديات المنطقة العربية جراء الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث سجل الناتج الإجمالي المحلي الاسمي انخفاضاً بنسبة 10% في المتوسط عام ,2009 وتأثرت صناعة الإعلام بشكل مباشر، مع تراجع عائدات الإعلان في المنطقة بنسبة 14% عام .2009 ويتوقع حدوث انتعاش سريع، وستعود عائدات الإعلان إلى ما كانت عليه قبل الأزمة عام 2008 بحلول نهاية 2011 وستواصل نموها بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 8% اعتباراً من عام 2009 حتى عام .2012 وعلاوة على ذلك فإن العاملين في القطاع متفائلون بشأن المستقبل، حيث قال 60% من الخبراء الذين تمت مقابلتهم إن لديهم، شعوراً إيجابياً إزاء حالة قطاع الإعلام في المنطقة العربية لعام .2010 وهناك بعض الاتجاهات الإيجابية بهذه الصناعة، لاسيما مع النمو في وسائل الإعلام الرقمية والتغيرات الهيكلية التي يشهدها القطاع.
يظهر تقييم قطاع الإعلام المطبوع مقارنة مع الأسواق المتقدمة والناشئة، أن هذا القطاع يشهد تغيرات هيكلية مهمة بدءاً من تقليص التكاليف وترشيد عملية إطلاق عناوين جديدة إلى عمليات الدمج بين منصات متعددة والانتقال إلى منصات جديدة. ولكن، وعلى عكس العديد من الأسواق الأخرى، يواصل قطاع الإعلام المطبوع في المنطقة نموه المستمر سواء في عدد العناوين أو حجم التوزيع. وفي حين أن ظهور شبكة الإنترنت كمنصة صالحة لاستهلاك الأخبار بدأ يؤثر على الصحف التقليدية في المنطقة، فإن معظم المؤسسات الإعلامية تستخدم شبكة الإنترنت لتستكمل نسخ منشوراتها المطبوعة. وبالنظر إلى المستقبل، وعلى الرغم من توقع تباطؤ معدل نمو الإعلام المطبوع، فلا يزال هناك المزيد من الإمكانيات غير المستغلة، فالأسواق في المنطقة العربية لا تزال غير مشبعة، مع تركيز منخفض للصحف في العديد من الدول، فضلاً عن احتمالات قوية لزيادة عائدات الإعلان من خلال تعزيز عمليات تدقيق التوزيع وتنفيذ المزيد من عمليات الدمج.
ثانياً: تواجه صناعة التلفزيون في المنطقة العربية تحديات من نوع مختلف تماماً يجري التعامل معها على نحو أكثر جدية من قبل الشركات والحكومات على حد سواء، بما في ذلك انخفاض عائدات الإعلان التي تواجهها قنوات البث المفتوح. وانخفاض معدل انتشار البث التلفزيوني المشفر. كما أن قطاع البث الفضائي المفتوح يشهد تشتتاً واضحاً بعد أن وصل عدد القنوات إلى ما يقرب 600 قناة عام ,2009 في حين تهيمن عليه قلة من محطات البث الرئيسة. ومع ذلك، هناك إمكانات كبيرة للنمو مدفوعة باعتماد نظم دقيقة لقياس جمهور، وزيادة عمليات الدمج في القطاع، وإدخال تقنيات جديدة ستعزز مفهوم الإعلام المستهدف، وفي الوقت نفسه يواجه قطاع البث المشفر تحديات قاسية، ناجمة عن ارتفاع مستويات القرصنة والمنافسة الحادة من قطاع البث الفضائي المفتوح. وبالرغم من ذلك، من المرجح أن تسهم عملية دمج اثنتين من كبرى شركات البث المشفر لتشكيل شبكة أوربت وشوتايم، إلى جانب زيادة الاستثمارات في تكنولوجيا مكافحة القرصنة، في دفع النمو في هذا القطاع. بالإضافة إلى ذلك بدأت المنصات الرقمية الجديدة تترك بصماتها في المنطقة، بما في ذلك ارتفاع معدلات انتشار البث الأرضي الرقمي في شمال إفريقيا وتلفزيون الإنترنت في بعض دول الخليج، في حين يتم طرح خدمات جديدة مثل الفيديو حسب الطلب من قبل شركات البث المشفر، باعتبارها وسيلة للتمايز عن محطات البث المفتوح.
الوقت – قسم الدراسات والتطوير – أحمد العبيدلي