يُفتتح في السادسة من مساء اليوم صالون الخريف الثامن والعشرون الذي ينظمه سنوياً متحف سرسق. وبسبب الاشغال في المقر الدائم فإن افتتاح المعرض سيتم في "كوكب الاكتشافات"، ستاركو.
رأيت المعرض يتكوّن عملاً عملاً، عندما ذهبت للمرة الاولى لاسلّم التجهيز الذي أتممته. الفضول دفعني الى "البصبصة" على ما كان معلّقا أو منتظراً دوره عند جوانب الردهات والأروقة. قالت لي كوميسير المعرض ومديرة متحف سرسق سيلفيا عجميان انه لا يحق لأحد مشاهدة الاعمال قبل أن يراها اعضاء اللجنة التحكيمية. القضية دقيقة ذلك ان أعمالاً قد تُرفَض، وهذا قد يتسبب بمشاكل نحن في غنى عنها، في حال إلقاء الضوء عليها.
في المرة الثانية توقفت طويلا أمام اعمال جيدة جدا، منها لوحة عملاقة لشارل خوري (ديبتيك) من دون عنوان، عالجها الفنان بالاكريليك على قنّب وتتضمن توزيعا دراميا لكتلة بشرية، عُرضت على شاشة الاحداث لبرهة ثم اختفت، وكلها تقيم داخل مربعات متوازية، انما في اشكال وهياكل ومخلوقات لها ميزاتها حتى ولو تنوعت ألوانها واختلفت أعماقها التي أُدخلت عليها، لتحتل مساحات ذات حدود تمنع انفلاشها او تجاوز المكان المهيأ لها. وقفت مجدداً أمامها وبانتباه عميق، فقالت سيلفيا عجميان انها نالت الجائزة الاولى. أجبت على الفور: هي تستحق هذه الجائزة. انها فعلا ترقّص العينين طرباً.
يلفت أيضا تجهيز من السيراميك لسمر مغربل، مستلّ من الحياة اليومية ومكوّن من 9 تشكيلات من القساطل والاكواع تحمل اسم "مزاريب بيروت"، تتوزّع حولها وعلى بعض رؤوسها قطط في وضعيات مختلفة، حتى لكأنها صاحبة الزواريب وملكتها. هذه الفخاريات ذات اللون البيج او البنّي المحروق هي ملجأ للقطط الشاردة.
108 أعمال
لم أحاول تصنيف ما رأيت من أعمال في الزيارة الثانية، أو وصف انطباعاتي في شأنها. كنت كالمتفرج الذي ينتظر مفاجأة ستطل عليه. ثم تركت المكان الذي تعج فيه مواهب جديدة يمثّل أصحابها الجيل الواعد، الغالبية من عنصر الشباب، وهؤلاء يدخلون حرم المتحف للمرة الاولى، وتستمر عبرهم المتابعة الابداعية. ربما.
يتضمن الصالون 108 أعمال تعود لـ 76 فنانا، اختارتهم اللجنة التحكيمية من بين 273 عملا لـ 132 فنانا. وارتأت اللجنة ان تمنح كلاً من شارل خوري جائزة المتحف، وجيلبير الحاج جائزة اللجنة، وعبد الرحمن قطناني تنويها خاصا.
تعرض الفنانة تنباك تمثالا على علبة توضيب، مكوّن من مواد مختلفة، ناشفة وقاسية، تحمل عنوان "لا يزال ينتظر غودو". اما انيتا توتكيان فتختار السلّم المعقد المتعالي الى فوق، وهو من معدن مجنزر. وقد يشعر المرء بحاجة هذه المادة الى الكبس لتوضيبها وتحجيمها والسيطرة عليها افتراضيا. تعرض غيلان طوروسيان دير بوغوصيان 8 قطع من مواد مختلفة تبدو كالورق المقصوص، موضوعة مباشرة على الارض وتتفاوت الوانها بين الابيض والبنّي. في المقابل 3 سجادات بألوان زاهية معلّقة الواحدة قرب الأخرى، وتحمل توقيع جاسنكا توكان ـ فايان.
كتب ايتل عدنان لا يمكن الزائر ان يمر بها لامبالياً أو من دون ان يبتسم للكلمات المكتوبة، وهي قصيدة لعقل العويط، كما للالوان الفرحة التي نراها، وللتطعيج الشبيه بالاكورديون الذي يمكن فتحه وغلقه من دون عناء. عمل ايتل عدنان هذا، في صندوقه الزجاجي، يميّز رسوم هذه الفنانة الشاعرة لتمثيل الكلمة باللون والخط. انها موضوعة في مكان تستحقه، ويلفت.
كالعادة، كريكور اغوبيان يتابع مشواره مع الفاكهة. يرسمها في اطار يسكن داخل اللوحة. انها الرمانة والافوكا او فاكهة اخرى.
ترسم ريما اميوني "صيفي فيلاج " بألوان تريح العين، كأنها تتابع اخبارها التراثية على قماشات متلاحقة ومستقلة. ثمة في منظرها مواقع شفافة لكنها تسقط احيانا في التردادات، غير انها لا تزال تغري العين وتستنهض الابتسامة على الشفاه. يستوحي شارل اندراوس اختباراته من الهندسة المعمارية الاوروبية ايام النهضة، يشقع مباني وكاتدرائيات وقناطر، مونوكرومية بنّية، ترتكز على اعادات تكرارية لمنظر طبيعي مكث طويلا تحت المطر او الشمس فاحترق و"تجنزر" لكنه بقي محافظا على بهائه.
شوقي شمعون
"اكره هذا البلد، احب هذا البلد"، عنوان لتأليف من 4 اعمال لزينة عاصي فرح من مواد مختلفة على قماش. يتلاعب هذا التأليف بتعابير الوجه بين حالتَي الكره والحب. يطغى اللون الاحمر احيانا واللونان الاخضر والترابي احيانا اخرى. لوحة شوقي شمعون العملاقة، "في انتظار البطل"، فجوات مربعة في جدار موزّع على مستطيلات غير مستقيمة تماما، انما تمتد من الاسفل الى الاعلى وتتحمل دخول طفيليات لونية تساهم في تهوئتها وتستقر في فسيفساء تشبه الطاقات التي تجتاز الحيطان لتترك فرصة للشمس لتخترق سماكتها. يصطف في الاسفل التجمع البشري الملوّن الذي من دونه لا تستطيع اللوحة ان تستمر في الانتظار. شمعون لا يتوقف عن رؤية الاعمال عملاقة اكثر واكثر حتى الانفجار. رغم ذلك تبقى الوانه فاتحة، "ريّيحة"، تدغدغ العين ايضا وترضي الذوق الجمالي ايضا وايضا.
"امرأة في مخيم "، لوحة عبد الرحمن قطناني التي نالت تنويه اللجنة التحكيمية، هي كالتجهيز الذي بدل ان يكون مرتكزا على الارض يعلِّق على الحائط ويتمتع بألوان لافتة من غير الممكن المرور امامه من دون التوقف والتمعن في مضامينه وهيكليته ومواده. عمل ململم على ذاته، يستعد للانفلاش انما ليس عشوائياً. الاقمشة المزوزقة والمواد المختلفة الموضوعة على الخشب، تبدو اكثر انضباطا في الوسط حيث ثقل التكوين ولمعان مادته المختلفة.
زينة قمر الدين بدران من الاسماء الجديدة. اعمالها تركّز على الشهادة والشهداء. محاولتها قد تتطوّر، غير ان ما يمثلها اليوم مقبول في المطلق.
ثمة عمل "مهضوم" لدافيد كوراني يحمل اسم "مجزرة الزيتونة العظيمة"، يعالجه الفنان بالاكواريل ويعطي صورة لحبّة الزيتون المضخمة فوق صحن كبير في الوسط.
يصوّر بسام لحود نور الشهادة ويضع في قلبه صورة صغيرة لجبران تويني حيث في المقابل خطوط حمراء تجري نحو الاسفل وترمز الى التضحية والى النور المنبعث من حضور الشهيد.
اعود الى جيلبير الحاج. هذا المصور مسكون منذ بداياته برؤية سوداوية لا تسمح للتعابير بقول كل ما تكتنزه الاشياء والوجوه في داخلها. هنا يعرض وسادة ذات ازهار صغيرة ملوّنة تغرق في بحر من العتمة، يؤطرها ويتركها سابحة في بقعة مستقلة.
تيو منصور، الذي لفت العام الماضي كل الاعين بجداريته العملاقة، يقدّم هذه السنة لوحة كبيرة اسمها "نجوم رشا"، وتتكوّن من نجوم واشارات تردادية على ارض زرقاء كسماء عند أول سقوط العتمة.
نتوقف عند لوحة جميل ملاعب: "شاطئ امان". تجريدية شكلانية فيها الوان صافية على أجواء ربيعية تتدفق منها حياة متجددة. الصبغات كلها مدروسة ومشتقة من ألوان فيها البيج – الطحيني، والازرق السموي والاخضر المعشوشب اليانع، وفيها كتل غامقة تتأرجح بين الفاتح والغامق من دون المرور بألوان انتقالية.
يميل جان – مارك نحّاس الى تقطيع لوحته وتوزيع البشر هنا وهناك وفق المزاج وسرعة اليد وعمق الالهام. التوقف عند "جورنال 1" و"جورنال 2" عملية معقولة، رغم ان اللوحة الاخرى الثلاثية التي لا عنوان لها تلفع بجرأتها الحمراء التي تتحدى العين وتفرض نوعا من الاهتمام المفاجئ.
للفنانة لوتي عضيمي لوحة متوسطة تحمل اسم "هجرة"، تقول ببساطة وبخطوط قليلة ما تحمله الكلمة من مآسٍ بشرية. اما منى باسيلي صحناوي فتضع على الارض حقيبة عنوانها "بعد شهرين" وتعلق فوقها لوحة "الارامل". ويواصل بسام جعيتاني اختباراته مع الصدأ ويقدم لوحتين عملاقتين لا عنوان لهما. وتعرض مارال دير بوغوسيان "سطوح بيروت" التي تصوّر مقاطع من شكل المدينة تعلوها تشكيلات متنوعة من واقعها المعيش. ويرسم منصور الهبر الكثير من الرؤوس فوق ارض تميل الى الاصفر المخضر.
يغزو المعرض هذه السنة الكثير من التصوير الفوتوغرافي ولا سيما لدى الجيل الجديد. نذكر كلاً من جورج حداد، جوان عيسى، لينا نخله، يارا سعادة، وريّا حداد. وتعرض ديالى خضري لوحة لشخص يفتح فمه حتى الصراخ.
ويقدم انطوان منصر لوحة صفراوية اللون نشاهد فيها طفلا يهرب من مكان مسكون بفجوات تمّت تغطيتها بأشرطة معدنية وكأنها خيطان عنكبوت قد تفلت من تحتها وحوش لتفترس الطفل الراكض من دون ان يلتفت الى الوراء. يرسم قيصر مقداد لوحة عنوانها "بيروت بياض الثلج" وفيها رؤية تجريدية ذات اشارات متنوعة واشكال هندسية مختلفة.
واخيرا مع لوحة غريتا نوفل التي تقدم منذ فترة اعمالا تجسيدية ولا سيما مجموعتها التي صوّرت فيها نجوم الجاز. اليوم، تعرض بورتريها للزميل الروائي الياس خوري.
سأزور المعرض مرةً ثالثة، ورابعة، وأكثر، لأنه مستحق، منهيةً كلمتي بتمنٍّ أطلقته سيلفيا عجميان: لو يتاح لهذا المعرض الخروج الى البلدان المتحضرة ليرى العالم الفن اللبناني. من جهتي أضيف: ندعو الربّ لمشاهدة الابداع اللبناني لعلّه يغطي قليلا خطايانا وتعثراتنا وخلافاتنا التي تجعلنا مضحكة العالم أجمع.
لور غريب – النهار 03-03-08