يدان تحملانها، ترفعانها الى فوق، تملّسان شعرها، تتفقدان جبينها… تضحك، تضحك.
النهار في اوّله، مهمات كثيرة في انتظار الاخت كليتوس ماريا رئيسة بيت "مرسلات المحبة" في سد البوشرية واخواتها الراهبات السبع الاخريات. وبمئزر طويل ارتدته فوق "ساريها" الابيض المخطط بالازرق عند الاطراف، تنتقل من مهمة الى اخرى، من دون تأخير: تدخل غرفة، تلقي نظرة سريعة، تنزل الدرج، تسأل عن الطبخ، تصعد الدرج مجددا، تتفقد الاولاد، تنتقل الى جناح آخر، تسأل هنا، توجه هناك، تلقي تحية على هذه، تُضحِكُ هذا، تداعب ذاك.
والى الاشراف على كل شؤون البيت، بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، تتضمن لائحة واجباتها اليومية ايضاً – كبقية الاخوات – التنظيف، اعداد الطعام، الاهتمام بكريستيان واندريا وكثر غيرهما. فهي تشارك في "كل شيء". "الطلعات والنزلات" من الامور العادية الروتينية، والصلاة زاد يومي اساسي. وتبقى ابتسامة على الوجه من اجل "أفقر الفقراء".
خدمة "افقر الفقراء" هي الرسالة التي تعيش من اجلها كل يوم الاخت ماريا ورفيقاتها السبع في " بيتهن" في سد البوشرية، ونحو 5 آلاف اخت اخرى موزعات في مختلف ارجاء العالم. 750 "بيتا" في 130 بلدا. بهذا القدر، تنتشر "مرسلات المحبة". وفي لبنان، انزرعت بذرة الخدمة من العام 1979، "31 عاما في خدمة الفقراء"، وفقا لحسابات دقيقة للاخت ماريا. و"كانت اوقات صعبة خلال الحرب"، تذكر. خلال كل هذه الاعوام، كانت الخبرة مثمرة ايضا. "لقد اختبرنا محبة الله بطرق مختلفة. وحضوره تمثل، ولا يزال يتمثل، من خلال اللبنانيين الذين يأتون دائما لزيارتنا وتقديم المساعدة الينا، وايضا من خلال اتاحة الفرصة لنا لخدمة الفقراء".
الانطلاقة الاولى كانت في مدرسة قرب كنيسة مارت تقلا في سد البوشرية. وبعد التمركز هناك ردحاً من الزمن، انتقلت المرسلات الى مقر جديد في المنطقة نفسها لا يبعد كثيرا عن الاول، و"يلبّي الحاجة". على هذه المنطقة وقع الاختيار، "لانها فقيرة"، على قولها، "ولاننا وجدنا منزلا ملائمًا من حيث الحجم والميزات. لقد اردنا الافضل للفقراء ووجدنا مبتغانا"، على ما تقول. والى هذا البيت، يضاف آخر في بشرّي، تسكنه اربع راهبات، و"مهمتهن رعاية اهالي بلدات شمالية مجاورة على الصعيد الروحي، والقيام بزيارات رعوية في المنطقة".
البداية كانت مع اولاد باعاقات مختلفة متروكين كلياً. كانت ايام حرب، "ورأينا يومذاك ان ثمة حاجة ماسة الى الاهتمام بهم"، تقول. ثم لاحظت المرسلات "حاجة أخرى ملحة"، هي "الاهتمام بعجزة لا احد يريد الاعتناء بهم، مهمشين، منبوذين، فقراء، مرضى". والحاجة لا تزال هي نفسها اليوم. 20 عجوزا من 65 عاما الى 91 عاما، و26 ولدا باعاقات مختلفة، من شهر ونصف الشهر الى 16 عاما يشكلون العائلة اليوم، مع 8 راهبات من الهند وبولونيا والبيرو وكينيا والفيليبين، اضافة الى "متطوعين لبنانيين ملتزمين الخدمة يومياً ومجاناً، الى عدد قليل من العراقيين". انهم "الامناء الذين يسعدوننا"، على ما تصفهم.
تعرف الاخت ماريا، كبقية اخواتها، اين يجب "التفتيش" لايجاد هؤلاء "الفقراء" الذين قسا عليهم الزمن. المناطق الفقيرة وجهتهن الدائمة. "نزور عائلات في عوز، نقف على الحاجات، نعاين الوضع. نذهب الى حيث هناك حاجة الينا، ولا يهم اطلاقا دين الناس او طائفتهم. بيتنا مفتوح للجميع، ايا يكونوا"، تقول. هكذا تجمع المرسلات فقراءهن: احيانا تقودهن زيارة اليهم، واحيانا يخبرهن احد الكهنة عن حالة او اخرى، او يتلقين اتصالا من منظمات انسانية. وتكون الراهبات على الموعد. "نذهب ونطلع على الوضع. ابقاء العجوز او الطفل المعوق ضمن العائلة امر مهم بالنسبة الينا. نحاول التشجيع على ذلك، لكن اذا لم يعد ذلك ممكنا، نعود به، ونضمه الى بيتنا".
لا وقت لاضاعته في بيت "مرسلات المحبة". في الخامسة الا ثلثا صباحا، تبدأ الراهبات يومهن بالصلاة، فتأمل في الانجيل، ثم قداس. وفي الثامنة والنصف صباحا، تباشرن عملهن من اجل "فقراؤهن"، وينشغلن طوال ساعات النهار بالخدمة على اختلاف متوجباتها وانواعها واشكالها… وذلك حتى العاشرة ليلا، موعد النوم. وفي الحصيلة، ينلن "6 او 7 ساعات من النوم". طريقة الحياة هذه "تعلمناها من الام تيريزا"، تقول الاخت ماريا، "ونعيش وفقا لها. بكل بساطة، نقوم بما قام به يسوع المسيح. الم يقم بالامر نفسه (تجاه الفقراء)؟".
ولسكان البيت ايضا، كبارا وصغارا، برنامج يومي يتضمن رعاية جسدية وصحية، من علاج فيزيائي وعناية طبية واهتمام بالنظافة والطعام…، الى جانب رعاية روحية. صلاة "المسبحة" تجمعهم كل يوم بالراهبات، "ولهم ايضا وقت للسجود امام القربان، وقداس يشاركون فيه الاحد…".
في الوجوه، تقرأ الاخت ماريا الكثير، وفي كل منها، ترى يسوع المسيح. و"عندما اراه، تكون هذه صلاتي"، تقول. الخدمة، العمل، التعب… "كل هذا ايضا صلاة" في رأيها ورأي رفيقاتها. على سبيل المثال، يخترن الا تكون لديهن آلة للغسيل، "لانه خلال الغسل، نصلي. كذلك، اذا كانت لدينا آلة، لا تعود هناك حاجة الى شخص يهتم بالغسل ويُعطَى القليل من المال لقاء خدمته"، تشرح.
لا تحب الاخت ماريا الكلام على صعوبات في عيش رسالتها، بل تشير الى "طلعات ونزلات" طبيعية كل يوم. "هناك اوقات فرح وضحك"، على ما تشير، "وهناك اناس يتألمون، ونشعر بآلامهم، ونتأثر بها… وفي الحالتين، لدينا الفرصة للمساعدة ولخدمة يسوع، من خلال خدمة اخوتنا الفقراء. هذه هي رسالتنا". آلام الآخرين تشكل بالنسبة اليها مصدرا للتأمل والاحترام. "منها تعلمت ان أقبل آلامي، مهما كانت كبيرة، وان آلامي لا تقارن بآلامهم. بخدمة اخوتي الفقراء ومشاركتهم آلامهم، يمنحني الله قوة اكبر وسلاما اعمق لتحمل آلامي الذاتية".
35 عاما مرت على انضمام الاخت ماريا الى "مرسلات المحبة"، وخلالها اختبرت العيش مع الام تيريزا نفسها. وما تذكره عنها "انها كانت بمثابة ام ثانية لي. كانت ممتلئة بيسوع. وكم اتوق الى لقائها مجددا". واذا كانت ارادت ان تصير مرسلة من مرسلات الام تيريزا، "فلانني احب الفقراء، ولدي هذه الرغبة في قلبي في خدمة الآخرين، ومعانقة حياة الفقر، حبا بيسوع، وتعبدا له". والعيش كمرسلة طوال هذه الاعوام لم يكن صعبا اطلاقا. ووَصْفَتُها تكمن في ثلاث كلمات فقط: الحب، الالتزام والاخلاص، وهي كفيلة بالغاء اي صعوبة"، على قولها. وانطلاقا من ايمانها هذا، مرّت الاعوام "بسرعة، لان الله يهتم بكل شيء. وكانت كلها ليسوع. لقد استمتعت بها، ولم يكن لدي وقت للملل او لاضاعته".
قبل عام ونصف العام، ارسلت الاخت ماريا الى لبنان. قبل ذلك، كانت في سوريا، بعدما امضت اعواما عديدة في اوروبا "في خدمة الفقراء". وهي مستعدة للذهاب الى اي مكان ترسل اليه. القوة تحتاج اليها، وتستمدها، على قولها، من "الافخارستيا". "اتناول يسوع صباحا، واقدمه بنفسه الى الفقراء". وتبقى السعادة في القلب، وتشكر الله. "انا سعيدة لانني اخدم يسوع. كل ما اريده هو ان ارضيه. يسوع جميل".
على مر الاعوام، اكتسب بيت "مرسلات المحبة" اصدقاء لبنانيين عديدين تأثروا "بمجانية العطاء الدائم"، "فاكرموا" بدورهم في العطاء. تقول الاخت ماريا: "خدمتنا مجانية، ونتكل في ذلك على العناية الالهية وحدها. لم نواجه مشكلات في لبنان على صعيد عيش رسالتنا، لان اللبنانيين كانوا كرماء معنا، ولم ينقصنا يوما الخبز والماء والطعام… ونشكرهم كثيرا على ذلك. لا يمكننا مواصلة عمل الحب هذا من دونهم. هناك اياد وقلوب في خدمتنا مجانا".
التقديمات، على اختلاف انواعها، موضع ترحيب من المرسلات. والتطوع في الخدمة امر يزرع الفرح في قلوبهن. "نرى ما يرغب فيه المتطوع، ونحاول ان نجد له المكان المناسب للخدمة". هكذا بدأت مرسلات لبنانيات رسالتهن. هن اربعة، وقد انطلقن الى العالم. الطريق واضحة امام كل راغبة في ان تصير "مرسلة محبة" مثلهن: بعد مرحلة اختبار قصيرة في البيت، تنقل الى عمان، حيث تمضي 3 اعوام ونصف عام، ترتدي خلالها الثوب الرهباني. ثم ترسل 5 اعوام الى بيوت مختلفة في ارجاء العالم. وفي ختامها، تعلن آخر نذورها. ومن وقتها، "لا نعود ننظر الى الوراء"، على قول الاخت ماريا.
الى الامام نظرت. الباحة التي تدخلها تقود الى عالمها اليومي. هنا الغرف شرعت ابوابها على الهواء. تدخل احداها لتتفقد "اخوتها". عجوز هنا تمددت، آخر غفا على سريره، اخرى كانت تتمشى… بينما انهمكت راهبة من المرسلات بترتيب سرير. على مقربة، تعاون متطوعان على حمل احداهن الى سريرها، بينما انشغلت اخرى في التنظيف. درجات تقود الى طبقة اعلى. هنا الوجوه تبتسم، تلاقي الاخت ماريا بحرارة. الاولاد جلسوا في غرفة اللعب مصفقين، تحت انظار راهبة اخرى. وفي غرفة مجاورة، كانت ساعة النوم لعدد من الاطفال، وبينهم طفلة الشهر ونصف الشهر الشقراء. تمر قربها الاخت ماريا متفقدة، تلمس رجلها الصغيرة، سارقة قبلة صغيرة "للبركة". ووراء الباب، كان كريستيان واندريا وغيرهما. وقت الطعام حان لبعضهم بمعاونة متطوعة، وكانت استراحة لآخرين، وتعالت ضحكات في الارجاء.
على غرار "امها"، تنقل الاخت ماريا الرسالة. "لننظر الى فقر المسيح. اليوم نحن في احوج ما نكون الى الله. لنرجع اليه". في بيت عادي، بسيط، غارق في رتابة الشارع، تعيش المرسلات مع اخواتهن. عند باب كنيستهن الصغيرة، دعوة الى نزع الحذاء قبل الدخول، "تواضعا، ولان الارض مقدسة"، على ما كتبن. وفي الداخل، حفظن ما تسميه الاخت ماريا "تلفزيوننا الوحيد"، اي "بيت القربان". هناك تصلين كل يوم. "ومن صلاتنا هذه، نُمنَح الطاقة والقوة لاكمال الطريق". وتبقى الام تيريزا، في ذكرى ولادتها المئة، عزيزة في القلب. "هي ام الفقراء وفرح العطاء".
هالة حمصيالنهار