يتنامى الاهتمام بالحوار في عصرنا هذا، بحيث أصبح مصطلحا مهما في العلاقات الإسلامية – المسيحية، وهو جوهر الحياة البشرية حين يتمّ بين ذوي النوايا الطيبة، إنه تقليد حضاري، وفعل ثقافي رفيع المستوى، ومجال للتعارف والتفاهم، وتحقيق المحبة والعدالة، والعيش والحياة المشتركة في مجتمع متعدد متنوع. إذا تعارفنا بعضنا مع البعض الآخر، فسوف نتقارب ونتفاهم ويطمئن كل منّا الى أخيه. وتكون النتيجة ان نتعاون جميعا معا. بالحوار تلتقي العقول والافكار، ويمكن تصحيح اية صورة مغلوطة او خاطئة. بالحوار يمكن التعرف الى نقاط التواصل ونقاط التلاقي، على ان المبدأ الاساسي فيه، ان تحاور الانسان لكي تربحه لا لكي تهزمه.
فالحرية الدينية هي علاقة بين الانسان والله. علاقة يحكمها الضمير، وعلاقــة تتــعلق بالقلب من الداخل. فالإسلام والمسيحيّة في الخطّ العقيدي الثقافي يلتـزمان التوحيد، ولكن تفاصيل المسألة التوحيدية تختلف في المسيحية عمّا هي في الإسلام، ثم بعد ذلك تمتدّ المسألة إلى مسألة القيم الروحية والأخلاقية التي تتميّز بها المسيحية ويتميّز بها الإسلام، وتلتقي فيها الديانتان على أكثر من ثمانين في المئة.
لا يجوز للمحاور أن يحاور الطرف الثاني ،إذا لم يكن على علم واسع أولا بالدين الإسلامي، وثانيا بالدين المسيحي، ومطلوب منه أن يكون عالما بالعصر، فقيها بقضاياه ومشكلاته، ومنفتح العقل.
يحتاج المحاور إلى بيئة هادئة بعيدة عن كل المؤثرات الداخلية والخارجية، وخصوصا ما يحمله كل طرف تجاه الآخر من انفعالات، ومن صورة مسبقة مرسومة في الأذهان لا يحيدون عنها. ينبغي أن يؤمّن المناخ الفكري الهادئ للحوار، وذلك من خلال إقامة جسور من الثقة بين الأطراف المتحاورة، والاحترام المتبادل، والبعد عن الإرهاب الفكري والنفسي، ونبذ التعصب.
اما الحوار المسيحي – الإسلامي فقد بدأه القديس فرنسيس الاسيزي في العام 1219. كان "الأب" فرنسيس في ذلك الوقت مرافقا للحملة الصليبية التي غزت مصر في عهد الملك ناصر الدين الأيوبي. وكانت الاشتباكات المسلحة بين المسلمين والصليبيين تشهد مراحل متعددة من الكرّ والفرّ. وكان يسقط في كل مرحلة المئات من الضحايا. وفي خضم هذه الاشتباكات الدامية، خرج الأب فرنسيس بلباسه الكهنوتي البسيط، متجردا من كل سلاح، سوى سلاح الإيمان بربّه وبتعاليمه التي تدعو الى المحبة، وحتى الى محبة الأعداء. فوجئ المسلمون بالرجل يتقدم نحوهم. وفوجئوا به كاهنا. ثم فوجئوا به لا يحمل بيده سلاحا، وكانت مفاجأتهم الكبرى انه طلب منهم ان ينقلوه الى الملك لمقابلته. لا تنقل الوثائق تفاصيل ما حدث في اللقاء، الا انه من الثابت ان الأب فرنسيس طرح حوارا اسلاميا – مسيحيا يوقف سفك الدماء، ويؤسس لتفاهم ديني على قاعدة الإيمان بالمسيح. وكان الأب فرنسيس نموذجا ومثالا.
تلك كانت المحطة الأولى لانطلاق قطار الحوار المسيحي – الاسلامي. أما المحطة الثانية فكانت في عام 1964، حيث انعقد المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أرسى قواعد لاهوتية وانسانية للحوار المسيحي مع الاسلام. أولى مهام المسيحي هي التعرف على شريكه المسلم، لا كما هو بكل بساطة، بل كما يريد ان يكون، وهذه المعرفة يجب الا تكون معرفة عالم الاجتماع، وهي معرفة جافة وغير حارة، ولكن يجب ان تكون معرفة الصديق للصديق الذي يعمل على ان يكتشف في صديقه كل ما هو حسن وجيّد، وعلى ان يحبه حبا صادقا".
لأول مرة في تاريخ الكنيسة ناقش المجمع الفاتيكاني الثاني على مستوى مذهبي – عقائدي مشكلة العلاقة بين الكنيسة والديانات غير المسيحية، حيث خصص لهذه المسألة المهمة تصريحا خاصا حول: «علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية» والذي نوقشت بعض جوانبه بصورة أو بأخرى في عدد من الوثائق الصادرة عن المجمع في الدستور العقائدي في الكنيسة، وفي الدستور الرعوي وعالم اليوم، وفي القراءات المجمعية في رسالة العلمانيين، وفي مهمة الاساقفة الرعوية في الكنيسة، وفي نشاط الكنيسة الإرسالي، وفي البيانات والإعلانات الصادرة عن المجمع في الحرية الدينية، وفي التربية المسيحية.
كما أولى هذا المجمع اهتماما خاصا للإسلام. فللمرة الأولى منذ 14 قرنا من وجود المسيحية والإسلام، يتحدث مجمع مسكوني كاثوليكي بصورة إيجابية عن المسلمين.
ثم كان علينا أن ننتظر محطة ثالثة في العام 1986، ليطلق البابا الراحل يوحنا بولس الثاني مبادرته العالمية للحوار، ليس فقط الحوار المسيحي – الاسلامي، بل الحوار المسيحي مع كل الأديان والعقائد الدينية في العالم. ولعل الحبر الأعظم أدرك من خلال زياراته عددا من الدول الاسلامية، ما سبق أن أدركه من قبل الأب فرنسيس عن أهمية الحوار بين الديانتين. فبعد زياراته لتركيا في عام 1979، وللمغرب في عام 1985، اتجه البابا الى أسيزي ليطلق منها مبادرته التاريخية في 27 تشرين أول 1986. ولم يجد البابا منبرا أفضل وأسمى برمزيته المسيحية من موقع ضريح القديس فرنسيس، مُستذكرا مبادرته التاريخية، ومحييا القيم الشجاعة التي قامت عليها، ومؤكدا على الأهداف المسيحية والانسانية النبيلة التي دعت اليها.
إن الحوار المسيحي الإسلامي هو الذي من شأنه أن يبني الحياة المشتركة، وينسجها خيطا خيطا، فالحوار يتطلب الاحترام المتبادل، والثقة بالآخر، ونشدان الحقيقة، والإنصاف والاعتدال، لنستطيع أن نبني إنسانا، ومجتمعا سليما من دون حقد وحرب وانتقام، حتى نتمكن في النهاية من بناء وطن نعيش كلنا فيه بسلام واحترام وكرامة.