حيث النضال إلى جانب المعدمين هو التيار المهيمن على الكنيسة. لكنها ميزة جغرافية فقط. لم يكن يوماً مع هذا الفريق. على العكس، كان من فريق النخبة الذي زرعه يوحنا بولس الثاني لمواجهته. لا شك في أنه يرث تركة ثقيله. الكنيسة في أوج أزمتها. تواجه فضائح وصراعات الداخلية، من فضيحة انتهاكات تعرّض لها أطفال، مروراً بالوثائق التي تدعي وجود فساد في الكنيسة، وصولاً إلى مشاكل «بنك الفاتيكان». تبقى مواقفه من قضايا العرب، التي لا يبدو أنها تبلورت بعد.
خرج الدخان الأبيض ومعه ظهر البابا الجديد، الذي جاء انتخابه خلافاً لكل ما سبقه من توقعات. لم يأتِ من الكاردينالات الأربعة الذين ملأوا صفحات الجرائد وشاشات التلفزة على مدى الأسابيع الماضية باعتبارهم الأوفر حظاً بالفوز. وقع الخيار من خارج هذه الدائرة، وإن جمع بين محافظية الكاردينال الإيطالي أنجلو سكولا والانتماء الجغرافي للكاردينال البرازيلي أوديلو بيدرو شيرر.
جورجيو بيرجوليو، كاردينال الأرجنتين، بات منذ مساء أمس يتربّع على رأس الكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها نحو مليار ومئتي مليون انسان حول العالم. اختيار لا شكّ في أنّه يعتبر انجازاً لمؤسسة محافظة لم تجرؤ منذ نحو 1300 عام على ترقية أحد، من خارج أوروبا، إلى هذا المنصب. لم يأتِ خليفة بطرس من خارج القارة القديمة فقط، بل جاء من الجنوب، من قارة الفقراء، من أميركا اللاتينية، وفي هذا تطوّر يسجّل لمجمع الكرادلة الذي انبثق من ثناياه البابا الجديد.
لكن المؤسسة الدينية تلك يبدو أنها لا تزال عاجزة عن تجاوز الموروث، وهي لهذا اختارت لقيادتها كاردينالاً محافظاً يشبهها، نأى بنفسه، طوال حياته الكنسية، عن حاضنته الكهنوتية التي هيمنت على أميركا اللاتنية منذ ستّينيات القرن الماضي. والكلام هنا عن «لاهوت التحرير»، الذي يرى أنّ الله يتحدث إلى البشرية من طريق المعدمين، وأنّ الانجيل لا يمكن فهمه إلّا من منظور الفقراء. وعلى هذه القاعدة، يرى هذا الفرع اللاهوتي أنّ الكنيسة الكاثوليكية في أميركا الجنوبية تختلف بنحو جوهري عن نظيرتها في أوروبا، لأنّها كانت دائماً من الطبقة الفقيرة ولأجلهم.
وكان انخراط الكنيسة الأميركية اللاتينية في النضال السياسي إلى جانب المحرومين ضد النخب الغنية، قد أثار غضب الكنيسة الأم التي اتهمتها بأنها امتداد للماركسية ومدافعة عن اليسار في القارة الجنوبية. ولهذا، حاول الفاتيكان بقيادة البابا الراحل يوحنا بولسي الثاني الحدّ من تأثير حركة لاهوت التحرير من طريق تعيين أساقفة أكثر تحفظاً في هذه البقعة من العالم. كان الكاردينال برغوليو واحداً منهم، واختياره بابا الآن لا يخرج عن هذا السياق.
هو إذن اتجاه لتعزيز التيار المحافظ في أميركا اللاتينية التي انحازت من أقصاها إلى أقصاها إلى اليسار، الذي أسقط الديكتاتوريات اليمينية الواحدة تلو الأخرى خلال العقد الأخير، حتى بات يهيمن على السلطة فيها. ويأتي توقيته في ظلّ «هجمة مرتدّة» تحاول من خلالها الولايات المتحدة، ومعها القوى الرأسمالية في المنطقة، استعادة تلك المنطقة مراهنةً في ذلك على جملة من التطورات، في مقدمتها الوفاة «المشبوهة» للزعيم الفنزويلي هوغو تشافيز وانتقال السلطة في كوبا إلى جيل جديد مع توقّع قرب رحيل قائدها التاريخي فيديل كاسترو.
لطالما كان برغوليو محافظاً بكلّ ما للكلمة من معنى، وإن كان يحاول أن يشيع عن نفسه أنه يعيش حياة بسيطة وأنه قريب من الفقراء. والمحافظية هذه صفة لها منحى سلبي في دول أميركا اللاتينية التي عاشت عقوداً طولية في ظلّ الديكتاتوريات العسكرية، وحيث رفع عدد كبير من رجال الدين، في ثمانينيات القرن الماضي، شعار الكفاح المسلح ضد الاستبداد. برغوليو لاذ وقتها بالصمت. لم يكن الأب اليسوعي التبشيري على الموجة ذاتها.
نشأ جدل واسع حول موقفه خلال الديكتاتورية العسكرية في بلاده (1976-1983)، التي قمعت بوحشية المعارضين السياسيين (تقديرات عدد القتلى والمختفين قسراً خلال تلك السنوات تراوح بين 13،000 إلى أكثر من 30،000). «لم يفعل حينها ما يكفي لدعم اخوته في الكنيسة. إنه متواطئ مثل كثير من رجال الدين الأرجنتينيين»، الذين «عرف عنهم صمتهم المطبق خلال الحرب القذرة».
«الإنجيل واليقين هما أفضل ردود الكنيسة على التغيّرات الكارثية التي تواجه المجتمع الأرجنتيني»، صرّح برغوليو في إحدى مقابلاته النادرة، في وقت كانت بلاده تئنّ تحت ضغط أزمة اقتصادية خانقة. لم يكن على وئام تام مع الحكم في تلك البلاد التي عالجت مشاكلها عبر جرعات من المنابع اليسارية والاشتراكية.
تصادم في السنوات الأخيرة مع حكومة نيستور كيرشنر ثم مع حكومة زوجته كريستينا كيرشنر. انتقد الفساد والرشوة والفقر، وخاض عام 2005 معركة بوجه وزير الصحة الذي اقترح قانون عدم تجريم الإجهاض.
كأيّ أبٍ يسوعي، كان اهتمامه في التبشير و«الدعوة». منذ أن أصبح رئيس أساقفة بوينس آيرس عام 1998، عمل على انشاء الأبرشيات الجديدة، وأعاد هيكلة المكاتب الإدارية فيها. اتجه نحو العناية بالمشاريع الرعوية الجديدة، مثل لجنة المطلقات، وتوسط في نزاعات اجتماعية في المدينة.
في ردّ له على سؤال عن الحلّ في بلد ذات أغلبية كاثوليكية، قال: «عفواً، ولكن هذه ليست بلد بأغلبية كاثوليكية. ربما معظم الناس يعلنون أنهم كاثوليك، ولكن الكاثوليكية هي، دون شك، أقلية ثقافية. وإلا، فكيف يمكن تفسير ارتفاع مستوى الفساد، من رسائل مدمرة في وسائل الإعلام، أو عدم المساواة الاجتماعية؟ هذا لن يكون ممكناً في دولة ذات أغلبية كاثوليكية حقاً».
أراد ارجاع بلاده إلى الينابيع الأصيلة للكاثوليكية. كان يحذّر من أنّ الأرجنتينيين أصبحوا يعتادون التأثير الشيطاني لإمبراطورية المال.
ابتعد عن المظاهر الدنيوية. لم يكن يملك سيارة بل استخدم وسائل النقل العمومية، وقد تخلى عن الإقامة في منزل فخم مخصص لرؤساء الأساقفة في بوينس أيريس. كان محبوباً بين أبناء كنسيته، مدافعاً عن الفقراء، لكنه لم يقدّم الحلول الناجعة على طريقة العديد من رجال الدين في قارته الذين التزموا خطاً سياسياً ــ اجتماعياً.
«الأسقف الأحمر» فرناندو لوغو، الذي وصل إلى سدة الرئاسة في الباراغواي، خير دليل على بعد آخر وتوجّه آخر عند رجال الدين في أميركا اللاتينية.
ايلي حنا / الأخبار