عام 1975، تجنّد عدد من منظّمات المجتمع المدني على خطوط التماس التي كانت بدأت تفصل العاصمة بيروت إلى شطرين، رافضين للحرب، داعين إلى الحوار، مردّدين "لا" للنزاع. يومذاك، كان المجتمع المدني يتواجه مع ما يمكن تسميته بالمجتمع "العسكري". وعلى الرغم من إخفاقه في منع الأسوأ، فقد أعاد المجتمع المدني "تموضعه"، مقدّما بدائل حيث أخفقت الدولة أو غابت…
واليوم، في 2007، يجد المجتمع المدني اللبناني نفسه أمام تحدّي 1975 ذاته: تجنّب الأسوأ، وهو الذي لا يزال يحمل عبء حرب عبثية وأثقالها. كأننا لم نتعلّم شيئا: "لم ينسوا شيئا، لم يتعلّموا أي شيء" (دو توكفيل).
هذا المجتمع المدني، لا أدّعي تمثيله. ولا أحد منّا، نحن الحاضرين هنا تحت هذا العنوان، لم يفوّض من المجتمع المدني برمّته، وهو المترامي الأطراف. لكنّنا جميعا آتون من هذا الإطار الناشط، الحيّ، القادر، الواعد، والحامل مبادرات وبدائل. نحن شهود على قدرة هذا المجتمع على تخطي ذاته وعلى العطاء من دون مقابل، من أجل بناء دولة، وهو ما أخفقنا في إنجاحه حتى الآن… إنه مجتمع مدني قدّم ويقدّم خدمات إنسانية-إجتماعية، نعم، ولكنه قدّم ويقدّم أيضا خيارات في السياسة بمعناها الواسع، في قانون الانتخاب، في حملات مدنية وفي مجموعات ضغط…
وبذلك، فإننا لا نودّ أن نكون هنا مجرّد مراقبين، بل شركاء حقيقيين مع كل القوى السياسية التي تعمل في اتجاه بناء دولة تليق بها هذه التسمية. ويجب علينا أن نكون أيضا معارضين أشدّاء لكل الذين يرفضون إعطاء اللبنانيين واللبنانيات حقّهم بالحياة وبالاستقرار وبالمقاومة وبالازدهار.
معالي الوزير، عشيّة مغادرتي بيروت، إجتمعت مع حوالي ثلاثين جمعية –ذات حضور- وقد حمّلني ناشطوها، بمرارة كبيرة، مخاوفهم وقلقهم وانقباضهم. طلب منّي بعضهم شكر فرنسا التي تتزاوج قيمها مع المجتمع المدني فتشركه في المسارات السياسية الكبرى. حمّلوني أيضا رغبتهم في رؤية المتحاورين يذهبون في اتجاه تسوية خلاصية. فالتسوية، معالي الوزير، بعيدا من أن تكون تنازلا، هي في الواقع لبنانية بامتياز، ولها معنى إيجابي للغاية يأتلف تماما مع معنى لبنان المتعدّد، حيث التنوّع والوحدة لا يتعارضان. بعض نشطاء المجتمع المدني حذّروا من قبول التسوية بأي ثمن، عنيت بذلك: ألاّ تنطوي على تنازل.
فالمجتمع المدني، أيتها السيدات وأيها السادة، قد رسم خطوطه الحمر: التسوية الضرورية ينبغي أن تكون، بمختلف عناوينها، ضمن احترام المبادئ المحورية التي تأسّس عليها معنى لبنان، وأبرز تلك المبادئ، الآتية:
1-القيم الجمهورية والدستورية لدولة مدنية وعصرية، تعمل مؤسساتها وفقا لآلية تمنع الجدران المسدودة. ليس مطلوبا أن نعيد اختراع الدولاب حتى نحسن إدارة تنوّعنا. نريد دولة الحق، وليس دولة القانون. نريد معايير ثابتة في الحق وليس قانونا يذهب في اتجاه أهواء البشر، صانعيه.
2-مجتمع العيش معا ومجتمع المشاركة، حيث جميع مكوّناته، طائفية كانت أم أقليات سياسية تستطيع أن تتمثّل وأن تشارك بحريّة وأمان.
3-شفافية الحياة العامة، المقترنة بآليات حقيقية ضد الفساد وقضاء مستقل وعدالة إنتقالية بدل أن تكون انتقائية.
4-طبقة سياسية تكون جديرة بالثقة وتمثّل مواطنيها فعلا، بالاستناد إلى قانون انتخاب يعكس خصوصية لبنان. لقد قدّر لي، معالي الوزير، أن أشارك زميلي الحاضر هنا، الدكتور غالب محمصاني، عضوية الهيئة الوطنية لقانون الانتخاب، التي رفعت إلى مجلس الوزراء مشروعا إصلاحيا كاملا. المجتمع المدني يرغب في رؤية مشروع القانون متداولا، وهو متمسّك بالبنود الإصلاحية التي تضمّنها.
5-إنهاء "الحداد" على الماضي وإنجاز عملية التذكّر الخلاصية، من أجل مقاربة الحاضر، مهما كان إشكاليا، بعد أن نكون قد أفرغنا من أذهاننا "أكياس الرمل" التي نصطف وراءها. أمن المواطنين خطّ أحمر.
وبعد ذلك، إفعلوا ما شئتم… أنتم منتخبون، وتتمتعون بامتياز ثقة الناس ناخبيكم. ولكنّ لهؤلاء المواطنين امتياز أيضا، وهو أن يعرفوا كيف يقولون "لا" وأن يكون بمقدارهم قول ذلك، بحسب ما قاله ميشال شيحا، وهو كبير من عندنا.
في "كتابات سياسية"، يتساءل وزير خارجية لبنان السابق، الأستاذ فؤاد بطرس، قائلا: أليس الخطر كبيرا، عندما لا يتمكّن المرء من أن يعيش كما يفكّر، أن ينتهي به الأمر مفكّرا كما يعيش؟ لا نريد أيها السادة أن نفكّر كما بتنا نعيش منذ فترة من الزمن…