اطلق مجلس المطارنة الموارنة اليوم نداءه التاسع ولامس فيه كافة القضايا المطروحة مركزا على الموضوع الامني. والجديد فيه دعوة قوى 8 و14 اذار الى التآلف لتوطيد هيبة الدولة على جميع اللبنانيين، ولفت الى ان الوضع لا يزال مدعاة قلق كبير
عقد مجلس المطارنة الموارنة اجتماعهم الدوري في الديمان برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير. واذاع المونسنيور يوسف طوق بعد الاجتماع النداء الآتي:
"تعودنا في مثل هذه الايام ان نصدر نداء نستعرض فيه الوضع السائد لننبه الى ما نراه انحرافا قد يؤدي الى ما تحمد عقباه. والوضع هذه السنة، على رغم ما نرى فيه من بعض الانفراج، لا يزال مدعاة قلق كبير. وهذا ما نريد ان نعرض له، في هذا النداء التاسع، سائلين الله ان يجنّنبنا سوء المصير.
اولا – الاستحقاقات: نحمد الله على ان المجلس النيابي تمكن من انتخاب رئيس للجمهورية، بعد ما يقارب الستة اشهر من انتظار، وأخذت تعود الحياة الطبيعية الى المؤسسات الدستورية فتألفت حكومة وفاق وطني جديدة، وتم تعيين قائد جديد للجيش، وكانت الدعوة الى حوار وطني شامل برعاية فخامة رئيس الجمهورية.
يبقى ان تتم التعيينات في المراكز الحكومية والادارية الشاغرة باسرع ما يمكن. وقد مضى زمن طويل والامر بين اخذ ورد وتجاذبات لا نهاية لها، بينما هناك معايير يجب التقيد بها، وبالتالي اعطاء كل ذي حق حقه، فتسند هذه المراكز الى مَن يتميزون بالكفاءة والنزاهة والخبرة الناتجة عن تمرسهم الطويل بالشأن العام.
وإنا اذ نقدر الجهود التي يبذلها فخامة رئيس الجمهورية واعضاء الحكومة والمجلس النيابي في سبيل اعادة البلد الى وضع طبيعي، نأمل في ان يصدر قانون الانتخاب في اسرع وقت ممكن، وأن يكون عادلا ومنصفا، وأن تجري هذه الانتخابات في جو مؤاتٍ، بعيدا عن اضطرابات ومشكلات، وأن يتاح للشعب اللبناني اختيار مَن يشاء للنيابة، بمعزل عن اية ضغوط واغراءات.
ثانيا – اسباب تدعو الى القلق: 1 – اضطراب حبل الامن: ان الاحداث التي اندلعت في بيروت وفي طرابلس في ايار الفائت، لا تزال، بما تركت من ذيول، مسار قلق. كانت معارك نهر البارد السنة الماضية قد تسببت باستشهاد مائة وسبعين جنديا وضابطا كبيرا، وفي هذه السنة استشهد عشرة جنود وعدد من المواطنين في تفجير سيارة في طرابلس. ناهيكم عن الاحداث التي جرت، ولا تزال تجري، هنا وهناك في العاصمة والملحقات بين الحين والحين، فضلا عن الاخلال بالامن، في بعض المناطق، ولا سيما في منطقة البقاع. وحتى اليوم لا تزال حالة الامن مضطربة في اماكن عديدة. وبالامس ايضا اقدم مسلحون على انزال طوافة للجيش اللبناني باطلاق النار عليها وقتل قائدها الذي هو ضابط معروف.
وفي المدن الكبرى من لبنان خاصة، تعيش فئات من المواطنين في حالة فقر مدقعة. والفقر تربة خصبة باندلاع الاضطرابات. وهذا ما عرفت الشيوعية، في ما مضى، ان تستغله لتسيطر على الناس. وفي هذه المدن فئات من الناس متطرفة وغير منضبطة تنتظر من يستأجرها لخلق البلبلة واشاعة الاضطرابات، وهي تكتفي بالنذر القليل من المال والكثير من السلاح لتقول بأي عمل يُطلب منها، ولو منافيا للنظام والقوانين.
2 – انقسام في لبنان: يعاني اللبنانيون من الانقسام الحاد القائم بين الجماعات السياسية، ولا سيما جماعة 14 و8 اذار، وكل منهما يسعى الى توطيد هيبته على مفاصل الدولة. انه من الملحّ، لخير البلاد ان تتآلفا لتوطيد هيبة هذه الدولة على جميع اللبنانيين، على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم، بعد ان تألفت حكومة الوحدة الوطنية. ومن المؤسف ان لبنان ما زال يشهد بعضا من الكلام المحقّر يتراشق به افراد من هذا او ذاك الفريق على المستوى الرسمي، ما جعل الخطاب السياسي ينحدر الى ما لا يشرّف.
3 – تفكك الدولة: تعاني الدولة من تفكك في مؤسساتها. ثمة احكام تصدر عن القضاء تنصف المواطنين او بعض الموظفين، لكن الادارة ترفض الانصياع لحكم القضاء. وهذا يدل على ان الدولة لا تقيم اي اعتبار للقضاء، فكيف لها ان تطلب من المواطنين احترام احكامه؛ فهي تهدم بيديها ما بنته يداها. وما القول عن تعطيل المجالس والاجهزة الرقابية، فيما تشكو الدولة من الفساد وهدر المال العام.
4 – نحن على مفترق طرق: ان هذا الوضع الشاذ يرسم نقاط استفهام كثيرة، ويثير جما من الاسئلة لا بد من الاجابة عليها. إما ان يكون دولة تعي مسؤولياتها، وتقصد القيام بها عن سابق ارادة وتصميم، وإما ان تتراخى فتتنازل عن صلاحياتها لغيرها، وتعتزل كل مسؤولية. وهذا الوضع المستغرب حمل الكثيرين من اللبنانيين على الهجرة، وخصوصا الشباب من بينهم، وهم ذوو كفاءة عالية، وشهادات جامعية. وقد بحثوا عن عمل مجدٍ في لبنان فلم يجدوه، وهذا ما حملهم على البحث عن عمل خارجا عنه في بلدان مجاورة، وهناك امل بعودتهم الى بلدهم لبنان ولكنهم، اذا جرفتهم الهجرة الى بلدان بعيدة كالولايات المتحدة وكندا واوستراليا، فهيهات ان يرجعوا. واذا ما هم رجعوا فلا امل بعودة ابنائهم واحفادهم الى لبنان. والخسارة في هذه الحال كبيرة جدا.
ثالثا – توجهات مستقبلية: 1 – التفاف اللبنانيين حول دولتهم: الدولة هي ام لجميع ابنائها. فاذا كانت فقيرة يستحي ابناؤها بالانتساب اليها، وهذا ليس من شيم الكرام. واذا كانت غنية فاخروا بالانتساب اليها، وهذا انتقاص من قدرها بالذات، لان الانتساب في هذه الحالة ليس اليها، بقدر ما هو الى ما تملك من ثروة. فالام تبقى إمها في كل الحالات، غنية كانت ام فقيرة.
وغناها الحقيقي حدبها على ابنائها، ومدّهم بما لديها من عاطفة امومة. وهذه حال لبنان مع ابنائه على اختلاف اوضاعهم وحالاتهم. والوطن يقوى ويشتد بقدر ما يمحضه ابناؤه ولاءهم، ويضحّون في سبيل اعلاء شأنه، ورفع رايته، لتبقى عزيزة الجانب موفورة الكرامة. اما ان يعمد ابناء الوطن الى التنازع على خيوره، واقتعاد مقاعد الصادرة والوجاهة فيه، دونما نظر الى مصلحته العامة، فهذه جريمة لا تُغتفر.
2 – الانتماء الى الوطن: الانتماء الى الوطن شرط من شروط المواطنية الصحيحة. اما ان يعيش الانسان على ارض وطنه، ويعتاش من خيوره، وينعم بها ويخدم سواه من الاوطان، ويعمل على تحقيق مصالحه، على حساب مصالح وطنه، فهذه خيانة عظمى. وقديما قيل: "ملعون مَن يشرب من البئر ويرمي فيه حجرا". والمواطن السليم هو مَن سعى الى التضحية في سبيل وطنه، ولو على حساب راحته، وثروته، ومستقبله. والاقبال على الوطن في حال الرخاء، والإدبار عنه في حال الشقاء، ليس من المواطنية الصحيحة في شيء. والوطن له حق على المنتسبين اليه، هو حق التضحية في سبيله، ورص صفوف المواطنين حوله، لانقاذه مما يتهدده من مخاطر ويتربص به من محن.
خلاصة القول: ان هذه اللوحة التي رسمناها عن الوضع الراهن، مع ما فيها من ايجابيات، قد لا تحمل على الطمأنينة. ولكنها الحقيقة التي قد تجرح، غير انها تبقى الطريق القويم الى الشفاء. وأملنا كبير بأن يفيق جميع اللبنانيين على الحقيقة، ويسارعوا الى مواجهتها بأعين مفتوحة، وقلوب واعية، وعقول مدركة، ويسارعوا الى اجراء مصالحة عامة، تقضي على ما بينهم من حزازات، وتجمع صفوفهم على محبة بلدهم. ولن يلقوا مثله بلدا يحنو عليهم ويقيل عثارهم ويفاخر بهم. والعيش في لبنان، بالنسبة الى جميع اللبنانيين، هو افضل ما يتوق اليه لبناني، ولو جاب بلدان العالم كله. وكل طلة على جباله الشامخة، وسهوله الوادعة، وبحره الدافئ، وكل نسمة من هوائه العليل، وقطرة من مائه السلسبيل، تساوي، في نظر ابناء لبنان، كنوز الارض وخيورها. ليت اللبنانيين يعرفون قدر وطنهم، ويتصرفون على هذه القاعدة ليعود لبنان الى سابق عهده من الطمأنينة، والوفاق، والازدهار، والسلام.
استقبالات: وكان البطريرك صفير استقبل مساء امس سفير ايطاليا في لبنان غبريال كيكيا الذي اكتفى بالقول بعد اللقاء ان الزيارة زيارة محبة وبركة من صاحب الغبطة.
والتقى امين عام لجنة الحوار الاسلامي المسيحي الامير حارس شهاب. وعلى مأدبة الغداء تداول البطريرك صفير والمطارنة مع الوزير السابق جهاد ازعور مواضيع كنسية واقتصادية