سأل البطريرك الماروني الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير (متى يعي اللبنانيون ان لبنان لهم جميعا وعليهم التعاون لاعلاء شأنه?) مشيراً الى ان استذكار من غيبوا انما هو شهادة وفاء لهم.
فقد ترأس البطريرك صفير قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه الابوان جوزف البواري وريشار ابي صالح ، وخدمته جوقة الاكليريكية المارونية في غزير في حضور حشد من المؤمنين.
وبعد الانجيل المقدس، القى البطريرك صفير عظة بعنوان: وتركوه بين حي وميت، وقال: نتحدث اليوم عن مثلين: مثل الرجل الذي وقع بين ايدي اللصوص فضربوه، وتركوه بين حي وميت، وعن الابن الشاطر.
ان آباء الكنيسة قرأوا هذا المثل في منظور مسيحاني. يمكن القول، انهم يخطئون في ترجمتهم، ما دام الأمر يتعلق بقراءة رمزية. ولكن اذا فكرنا بان الرب يدعونا في كل الأمثال، انما كل مرة بطريقة مختلفة، الى الايمان بملكوت الله في شخصه، فان مثل هذه الترجمة المسيحانية لا يمكنها أن تكون دائما مخطئة كل الخطأ. فهي توافق دائما، بطريقة أو بأخرى، امكانية النص الضمنية، كثمرة تنضج انطلاقا من البذار. ان الآباء يترجمون المثل على صعيد التاريخ الشامل. هذا الرجل الذي جرد، وهو ملقى نصف ميت على قارعة الطريق، أفليس هو صورة آدم الرجل المثالي، الذي وقع على لصوص ?. أفليس حقا أن الرجل، هذه الخليقة المسماة رجلا، على مدى تاريخه، هو مستلب، ومعنف، ومستغل?
ان البشرية في مجملها قد عاشت تقريبا دائما تحت الطغيان. وخلافا لذلك، هل الطغاة هم صورة الانسان الحقيقية، أو يعطون صورة عنه بالأحرى مشوهة، شائنة ? وصف كارل ماركس بصورة حاسمة غربة الانسان عن نفسه. ولو أنه لم يبلغ العمق الحقيقي للغربة، لأن فكره كان ماديا بحصر المعنى، فقد أعطى صورة حسية عن الانسان الذي وقع في أيدي اللصوص.
ان اللاهوتيين في القرون الوسطى قد فهموا الاشارتين اللتين اعطاهما المثل عن حالة الانسان المحتقر كتعبير عن بعد انساني أساسي. لقد قيل عن ضحية الهجوم انها من جهة سلبت، ومن جهة ثانية، أشبعت ضربا، وتركت نصف ميتة ( راجع لو 10: 30). ان لاهوتيي العصر الوسيط كانوا يعزون هذا الى غربة الانسان المزدوجة عن نفسه. فهو، على ما يقولون، مسلوب من الأمور الفائقة الطبيعة، ومجروح في الأمور الطبيعية، أي انه مسلوب من وهج النعمة الفائقة الطبيعة التي قبلها هبة، ومجروح في طبيعته. وهذه استعارة، تتجاوز، دونما شك، معنى الكلمات الحرفي. غير أن الأمر يتعلق بمحاولة لتوضيح طبيعة الجرح المزدوجة التي تضغط على تاريخ البشرية.
الطريق الى القدس
ان الطريق من أريحا الى القدس تبدو كأنها صورة التاريخ الكوني، فيما الرجل الملقى، وهو نصف ميت على جانب الطريق، يبدو كصورة البشرية : ان التاريخ بحد ذاته، وما له من ثقافات وأديان، لا يشكل وحده ينبوع الخلاص. واذا كان الرجل الذي هوجم، هو باستعارة مجردة، صورة البشرية، فان السامري لا يمكنه أن يكون الا صورة يسوع المسيح . ان الله عينه الذي هو الغريب البعيد، قد سلك الطريق ليعتني بخليقته الجريح. والله البعيد عنا كل البعد، قد جعل نفسه قريبنا بيسوع المسيح. وهو يصب الزيت والخمر على جراحنا، وهي صورة رأينا فيها هبة الأسرار الخلاصية، وهو يقودنا حتى الفندق، اي الكنيسة حيث يصير الاهتمام بنا، ودفع مسبقا ما يجب من المال للعناية بنا.
في التفصيل، ان مختلف عناصر الاستعارة تختلف باختلاف آباء الكنيسة، ويمكننا دونما خوف، أن نضعها جانبا. ولكن رؤية الانسان المرتهن الكبيرة، الذي ليس له من يدافع عنه، والملقى على طريق التاريخ، والله عينه الذي، بيسوع المسيح، صار قريبه، يمكننا، دونما خوف، أن نحتفظ به، لأنه بعد يذهب الى أعماق الأمور، وهو يتعلق بنا جميعا. ان الضرورة المهمة التي يخفيها المثل، ليست يضعيفة من جراء ذلك، بل خلافا لذلك، انها تأخذ من هذا الأمر بعدها التام الكامل. وهذا أخيرا ما يعطي موضوع المحبة الكبير مداه الأبعد، وهو النقطة الحقيقية التي تطبع النص. لأننا نشعر الآن بأننا مرتهنون في حاجة جميعا الى الفداء. اننا في حاجة الى المحبة الخلاصية التي أعطاناها الله، لكي نستطيع، نحن أيضا، أن نحب، وأنا في حاجة الى الله الذي أصبح قريبنا، لنصل الى أن نكون قريبا من جميع الآخرين.
ان كلا من الناس هو شخصيا معني بشخصي المثل. لأن كلا منا هو مرتهن، مرتهن بالنسبة الى المحبة (التي هي جوهر الأشعاع الفائق الطبيعة والذي انتزع منا) . وعلى كل منا أن يشفى من باب الضرورة أولا وأن يتقبل العطية. ولكن على كل منا أن يكون سامريا، ويتبع المسيح و يشابهه. اذذاك نعيش عيشة صادقة. ونحب كما يجب اذا شابهناه، هو الذي أحبنا أولا.
مثل الأخوين ( الأبن الشاطر والأبن الأكبر) والأب العطوف (لو 15: 11-32)
هذا المثل، وهو ربما الأجمل من أمثلة يسوع، معروف باسم مثل الابن الشاطر. وفي الواقع، ان الابن الشاطر هو مؤثر كل التأ ثير من جراء اللوحة التي أعطيت عنه، وان مصيره، من حيث الشر ومن حيث الخير، يذهب توا الى القلب بحيث يظهر حتما أنه محور النص الحقيقي.غير أن في المثل، واقعا، ثلاثة أشخاص رئيسيون. لقد اقترح يواكيم أرميا وسواه تسميته بمثل الأب الرحيم ،بحجة أنه هو محور المثل الحقيقي.
وبيار غرولو من جهته وجه انتباهه الى وجه الأخ الثاني لأنه جوهري، وهو ارتأى بحق- على ما يبدو لي – أن العنوان الأصدق يكون مثل الأخوين . وهذا ناتج أولا عن الوضع الذي يجيب عليه المثل. في انجيل القديس لوقا، يبدأ الدخول الى الوضع بالطريقة التالية : العشارون والخطأة أتوا الى يسوع ليستمعوا اليه. والفريسيون والكتبة كانوا ينتقدونه : ان هذا الرجل يحسن استقبال الخطأة، ويوأكلهم . فاذا بنا أمام مجموعتين، أمام أخوين : عشارين وخطأة. فأجاب يسوع بثلاثة أمثال: النعجة الضائعة، والتسعة والتسعين الباقية في الحظيرة، ومثل قطعة النقود الفضية الضائعة، واخيرا بدأ رواية جديدة بقوله: كان لرجـل ابنان . ولكل منهما أهميته.
قايين وهابيل
يستعيد الرب هنا تقليدا شديد القدم: ان موضوع الأخوين يجتاز العهد القديم، منذ قايين وهابيل، مرورا باسماعيل واسحق، الى عيسو ويعقوب، وينعكس مرة أخرى، بصيغة متغيرة، في تصرف أبناء يعقوب تجاه يوسف. وقصة الاختيارات تسودها جدلية بين أخوين، وهي في العهد القديم تظل مسألة معلقة. وقد استعاد يسوع هذا الموضوع في وقت جديد من عمل الله في التاريخ، واعطاه اتجاها جديدا. نجد لدى متى نصا يتعلق بأخوين، وهو قريب من مثلنا : أحدهما يعلن أنه يريد أن يعمل بمشيئة أبيه، لكنه لا يعمل، والثاني يقول لا لمشيئة ابيه، ثم ، وقد ندم، يقوم بالمهمة التي وكلها اليه أبوه .هنا نواجه العلاقة بين الخطأة والفريسيين، وهنا أيضا يدعو النص في النهاية الى قبولنا نداء الله بطريقة متجددة.
ولنتتبع الآن خطوة خطوة المثل. نجد أولا صورة الابن الضال; وبعد، ان سخاء الأب، هو أيضا، ظاهر لأول وهلة. وهذا الأخير، وقد ارتضى طلب الابن الأصغر، الذي طلب نصيبه من الميراث ، فقسم أملاكه. وترك له الحرية. وكان بامكانه أن يتخيل ما كان بامكان الابن الأصغر أن يفعل بخيوره، لكنه تركه يتيع طريقه الشخصي.
وذهب الابن الى بلد بعيد. وقد شرح آباء الكنيسة هذا بقولهم انه خاصة كابتعاد داخلي عن عالم الأب،عن عالم الله، وكقطيعة خاصة للعلاقة، ومسألة الذهاب الى البعيد عما هو خاص بك وجوهري حقا. وبدد الابن ميراثه، وقد أراد أن يتمتع بالحياة ببساطة. ويستفيد منها الى آخر نقطة ، ويتملكها، على ما ظن، بوفرة. ولم يعد يريد ان يخضع لأية وصية، ولا لأية سلطة. فهو يبحث عن الحرية التامة، ويريد أن يعيش فقط وفق قاعدته الخاصة، دون أن يخضع لأي موجب خارجي. فهو يتمتع بالحياة ، ويشعر بأنه مستقل كل الاستقلال.
هل يكون من الصعب علينا أن نرى في ذلك روح عصرنا، وهي روح الثورة على الله والشريعة الالهية ? أي التخلي عما كان يشكل حتى الآن أسسنا، وخيار حرية دون حدود ? ان الكلمة اليونانية التي تدل ، في المثل، على الثروة المبددة، تعني في لغة الفلاسفة اليونان جوهر ، طبيعة. ان الابن الشاطر بددد جوهره، اي ذاته.
أخيرا، بدد كل شيء. هذا الرجل الذي كان حرا كل الحرية. وكان يعد نفسه سعيدا لو انه كان يظفر بما كانت تأكله الخنازير. ان الرجل الذي يفهم بالحرية الاستبداد المطلق والعمل بارادته الذاتية ، ويسير في طريقه الشخصي الخاص دون سواه، فهو يعيش في الكذب، لأن مكانه، طبعا، أن يكون في المبادلة، وحريته هي حرية يتقاسمها والآخر. فهو، طبعا، يحمل مسألتين مكتوبتين في ذاته الانتظام والقاعدة. والتماهي بعمق معهما، هذه هي الحرية الحقيقية. واستقلال مزيف يقود الى الاستعباد، وهذا ما اظهره لنا التاريخ بطريقة واضحة. بالنسبة الى اليهود، الخنزير هو حيوان نجس، وحراسة الخنازير هي تعبير عن التخلي عن الذات، وعن الفقر المدقع. الانسان الحر تمام الحرية، أصبح عبدا يستدعي الشفقة.
عاد الى نفسه
وهنا يأتي (التحوّل). ان الابن الضال عرف أنه هالك، وانه كان في البيت الوالدي حرا، وان خدام أبيه هم أكثر حرية منه، هوالذي ظن أنه حر، كل الحرية. فعاد الى نفسه ، يقول الأنجيل، ومثل الكلمة عن البلد البعيد، هذه الصيغة تدعو الآباء الى التفكير الفلسفي: هذا الرجل الذي يعيش بعيدا عن بيته وهو منقطع عن أصله، قد ابتعد كثيرا عن نفسه. كان يعيش منقطعا عن حقيقة وجوده.
وعودته الى ذاته، وارتداده يقوم على الاعتراف بذلك، وعلى فهم ارتهانه الخاص كأنسان ذهب الى البعيد، فأصبح غريبا عن نفسه، وهو الآن يقوم على العودة الى وضع نفسه على الطريق ، وبعد أن اجتاز كل الصحارى، عاد الى ذاته ليجد نفسه ويجد والده. لقد وضع نفسه على الطريق نحو حقيقة وجوده، وهي طريق تقوده الى ذاته. وبهذه الترجمة الوجودية ، ترجمة العودة الى الحظيرة، يشرح لنا الآباء ما هو الارتداد، وأية آلام، وأي تطهير باطني ينطوي عليه، وبامكاننا أن نقول دونما خوف أنهم بهذا تفهموا جوهر المثل، وهم يساعدوننا على النفاذ الى ما فيه من واقع حال.
الأمثال في انجيل السيد المسيح فيها امثولات كثيرة.عسى أن نفيد منها. وان استذكار من غيبوا من أبرز وجوه اللبنانيين بالأمس، انما هو شهادة وفاء لهم. ويبدو أن ذكراهم لم تمر دون أن تستدعي لدى بعضهم ما عبروا عنه بالأعتداء يالضرب على بعض من اشتركوا في هذه الذكرى الأليمة. ترى متى يعي اللبنانيون أن لبنان لهم جميعا، وعليهم، وهم اخوة، أن يتعاونوا على اعلاء شأنه.
وبعد القداس غادر البطريرك صفير الصرح البطريركي متوجها الى بيروت للمشاركة في حفل تنصيب البطريرك الجديد للسريان الكاثوليك يوحنا يونان.
جريدة الأنوار 16.02.2009