تبلغ الفتاة الشابة هذه السنة، الثامنة والثمانين من عمرها. تنفض عنها غباراً ثقيلاً تراكم فوقها وفوق أبنائها. تسرّح شعرها الرمادي الجميل، ترتب حاجياتها، تعيد تبويب حياتها، وترّقم يومياتها، تلون جدرانها، وتنطلق إلى حاضرها من جديد،
كصبية يحتاجها لبنان لأن تكون أكثر من مجرد أحرف ترقد في المخازن، وأكثر من مجرد كائن ولد عام 1921، أرّخ ذاكرتنا الجماعية، وأغنى البلد ومحيطه بثروة معرفية، دامت خمسين سنة وخبت مع بداية الحرب الأهلية عام 1975.
هي «المكتبة الوطنية» التي وضع أمس الحجر الأساس مشروع النهوض بها، بهبة بقيمة 25 مليون دولار أميركي من أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، في حفل نظمته وزارة الثقافة في المبنى الجديد للمكتبة في كلية الحقوق سابقاً في الصنائع، ورعاه رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، وحلت الشيخة موزة بنت ناصر المسند حرم أمير قطر، ضيفة عليه.
إذاً، بعد سنة بالحد الأدنى، تعود المكتبة كفتاة شابة لا تشيخ. تستكين في مبنى الصنائع الذي يبلغ بدوره المئة عام وعام، ويحمل بين جدرانه تاريخ المدرسة العليا لتعليم التجارة والفنون والمهن. تعود كحاضنة للكتب وحامية ذاكرتنا الخاصة والوطنية، وهي تنظر إلى نفسها كأم تبث حياة الماضي إلى حاضر ومستقبل الناس، جامعة تاريخهم وأديانهم وحضاراتهم، من دون أن تنسى المكتبة أنها حزينة في احتباسها الطويل في صناديق كرتونية. حزينة من عزلها عن الهواء وحجب نورها عن العالم. حزينة لخسارتها مئات من أبنائها الكتب والمخطوطات واللوحات التي نهبها ومزقها مجانين الحرب الأهلية من مبناها في البرلمان اللبناني، ثم استمتع الجرذان بتذوقها عندما نُقلت إلى مبنى الأونيسكو، وشاركهم الغبار والرطوبة في مهمة إتلاف مقتنياتها. وبعدها استكانت بهدوء في سن الفيل، ومنها إلى الجامعة اللبنانية في الحدث، لكن مخزنة أيضاً. أما عام 2003، فحمل الأمل للمكتبة، بعدما قدم الدعم من الاتحاد الأوروبي لإعادة تأهيلها، ونقلت مقتنياتها إلى أحد مباني مرفأ بيروت، حيث انطلق العمل، بانتظار جهوزية مبنى الحقوق.
مع عودة المكتبة الوطنية قريباً، تكتسب من جديد اسمها المفضل كـ«أم المكتبات»، وتنعش تعريفها القديم كـ«دار الكتب الوطنية» التي انطلقت مع مجموعة مؤلفة من 20 ألف مطبوعة ووثيقة، وثلاثةَ آلاف مخطوطة. أما اليوم فحجم مقتنيات المكتبة من مجموعات الكتب والدوريات العربية والعالمية هو حوالى 150 ألف وثيقة و3000 مخطوطة، بعدما فُقد منها الكثير خلال الحرب وأتلف جزء منها بعدها.
«يوم تاريخي»
حفل وضع الحجر الأساس، أمس، أطلق من جديد الأمل بأن تكون المكتبة، قريباً، داراً يجمع شباب ومثقفي وأبناء البلد. وحضر الحفل عقيلة أمير دولة قطر الشيخة موزة بن ناصر المسند، الرئيس فؤاد السنيورة النائب الثاني لرئيس وزراء قطر وزير النفط عبد الله العطية، نائب رئيس الوزراء عصام أبو جمرا، الوزراء فوزي صلوخ، تمام سلام، طارق متري، زياد بارود، نسيب لحود، ماريو عون وخالد قباني.
وأعتبر وزير الثقافة تمام سلام وضع الحجر الأساس «يوماً تاريخياً مع انطلاقة ثقافية جديدة، عنوانها مشروع المكتبة الوطنية في لبنان»، قائلاًً إن هذا اليوم يعني أن «ننتقل بالحلم، الذي راود كل مواطن بمكتبة وطنية جامعة، إلى حيز التنفيذ. في توقيت بارز يميز إطلاق سنة بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009 وينير أيامها بأهم مشروع يرتبط مباشرة بالكتاب وأهله».
وأشار سلام لـ«السفير» أنه خلال شهرين أو ثلاثة أشهر ستتم دعوة المؤسسات الهندسية ضمن مباراة لوضع تصميم للمكتبة الوطنية»، لافتاً إلى أنه لم يحدد، حتى الآن، أي تاريخ لانتهاء المشروع أو تسليمه». وأوضح سلام أن «الجهة الممولة تُشرف بشكل كامل وتتابع وتنفذ كل تفاصيل المشروع، ونحن نشارك بالرؤية والرأي»، نافياً أن يكون هناك أي «نقاش مع الجهة الممولة قد أخّر التمويل، إنما ذلك يعود إلى ظروف عدة، من الحرب الإسرائيلية على لبنان، والحرب على غزة».
وشكر سلام أمير دولة قطر على هبته الكريمة، محملاًً الشكر للشيخة موزة.
بدوره رأى النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء القطري عبد الله العطية «أن لبنان وقطر يلتقيان مرة جديدة اليوم على درب إعادة بناء وإحياء دور لبنان الطليعي على المستويات الاقتصادية والإعمارية والإنمائية والثقافية». وذكر العطية أن «المساهمة القطرية في تشييد بيت الذاكرة في هذا المشروع، إنما هي تحقيق للذات القطرية، فقطر عندما تنظر إلى المواطن في لبنان أو في قطر ترى فيه المصدر الأول للطاقة والمخزن الأساس للقوة».
وأشار العطية إلى «أن هذه المكتبة قد أسهمت من سابق عهدها الذهبي في صيانة وتعزيز الهوية الثقافية اللبنانية، وذلك بتطوير البحث العلمي في الأدب والتراث وتنظيم المعارض ورعاية المنتديات والنشاطات الثقافية والفنية التي أتاحت فرصاً واسعة للمؤلفين والمبدعين من الكتاب والأدباء والفنانين والعلماء، ليس على مستوى لبنان والعالم العربي فحسب، بل ومن كل أنحاء العالم في المشاركة والتفاعل وبناء جسور الصداقة والمحبة»، محيياً «رجال ونساء لبنان الذين أثروا هذا الصرح وأمدوه بشتى أنواع المعرفة ومختلف وسائل العلم والفكر والثقافة. لبنان جبران ونعيمة. لبنان مطبعة الشرق الأولى في دير مار أنطونيوس قزحيا في وادي قنوبين المنشأة عام 1610. لبنان اليازجي والبستاني، ثم لبنان أواسط القرن الماضي، لبنان صحافة العرب وثقافة العرب بما لها وعليها، إلا أنها ما قامت لولا بيروت».
اما السنيورة فاعتبر أنه «مذ توليت مسؤولياتي كرئيس للوزارة في منتصف عام 2005 أملت وعملت على تحقيق ثلاثة مشروعات ثقافية وحضارية كبرى ذات أهمية حيوية للبنان في الحاضر والمستقبل. كما أملت وعملت على أن تكون تلك المشروعات من ثمرات التعاون العربي. وأول تلك المشروعات المكتبة الوطنية، وهي التي تمنيت فيها على أمير دولة قطر الشقيقة في شهر تشرين الأول من عام 2005 أن يتبنى بناء هذا الصرح الحضاري الهام. ولقد بادر سموه فوراً إلى تشريفي بقبوله تبني بناء هذه المكتبة وتقديمها هدية للبنان الذي يحبه».
وتحدث السنيورة عن «ظروف طارئة، إلا أن ظروفاً طارئة حالت دون وضع الحجر الأساس في 27/5/2006. ولقد حلت بعد ذلك محنة حرب تموز وما تلاها من نتائج وإشكالات».
وشرح السنيورة عن المشروع الثقافي الكبير الآخر، أي دار الثقافة والفنون الحديثة والمعاصرة في وسط بيروت قائلاً: استجاب السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان لتمنياتنا، وبادر لتبني هذا المشروع وللتبرع لإنشائه عام 2005. وقد بدأ الإعداد التنفيذي لهذا العمل العمراني والحضاري بالفعل، وسيصبح المركز اللبناني- العماني للثقافة والفنون حقيقة واقعة خلال أقل من سنتين». وتابع: «أما المشروع الثقافي الثالث فهو المتحف التاريخي لمدينتي بيروت وصيدا. وقد تقدمت به لأمير دولة الكويت الشقيقة في الوقت ذاته. وقد استجاب بالفعل لهذا التمني، فقد أبلغني رئيس وزراء دولة الكويت الشيخ ناصر المحمد قبل شهرين بأن مجلس الوزراء الكويتي اتخذ قراراً بتبني إنشاء المتحف التاريخي لمدينة بيروت، وكما بادر الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بتبني معظم كلفة إنشاء متحف مدينة صيدا وسيتولى تنفيذ هذين المشروعين الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، علماً بأن الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية سيسهم أيضاً بجزء من كلفة تنفيذ المتحف التاريخي لمدينة صيدا».
بدوره، يحمل وزير الإعلام الحالي ووزير الثقافة السابق طارق متري، تفاصيل كثيرة عن مشروع المكتبة الوطنية وإعادة إحيائها. ويتحدث لـ«السفير»، عن الجهد الذي بُذل «لتحديد الإطار العام لإعادة تأهيل المكتبة، عبر الانطلاق من تحديد أي مكتبة نريد، ومفهومها، وأهدافها. كما كانت الخطوة الثانية إعادة ترميم المخطوطات والوثائق، ثم تقديم توصيف دقيق للمشروع ولميزانيته». وذكر متري أنه أثناء توليه منصب وزير الثقافة، قسّم الهبة القطرية على الشكل التالي: «16 مليون دولار لتحديث المبنى الحالي الذي تبلغ مساحته الإجمالية 5000 متر مربع، ولبناء جديد ينفذ فوق مساحة 15 ألف متر مربع، لتصبح المساحة الإجمالية للمكتبة عشرين ألف متر مربع وتقدم صالات للعرض وللمطالعة وللندوات والنشاطات الثقافية، بالإضافة إلى ستة ملايين دولار للتجهيز ومليونين ونصف المليون دولار لزيادة المقتنيات من كتب وصور وأشرطة فيديو، ونصف مليون دولار لتدريب العالمين الذين سيتولون مهمة إدارة هذه المكتبة».
إبتداءً من اليوم، إذا، تصبح العيون مفتوحة على تلك البقعة في الصنائع، حيث سينهض المبنى الحديث الحاضن لمكتبتنا الوطنية، ولإرثنا الثقافي، ولا شك أن قسماً كبيراً من المنتظرين والمتحمسين يتأملون بدقة تفاصيل المشروع، وهمة العمل فيه ولأجله، والأهم الحماسة المستمرة لإنهاضه وتجهيزه وتزويده بأهم المقتنيات بعد إنهاء المبنى، بالإضافة إلى حسن إدارته وتفعيله، لئلا يتحول بعد سنوات من إطلاقه إلى مجرد إدارة رسمية.
جهينة خالدية- جريدة السفير 11.05.2009