وكيف أصبحت أرضُ "الدَّياناتِ الثَّلاثةِ الإبراهيميِّةِ"[2] (اليهوديَّةِ والمسيحيَّةِ والإِسلامِ) منطقةَ صراعاتٍ وحروبٍ؟ وهل هذا يُثبت للعالمِ فَراضيَّةَ أَنَّ الأديانَ مصدرُ عنفٍ وعدمِ تسامحٍ؟
بالطَّبع لا، فالعالمُ العربيُّ ليس مجردَ صراعاتٍ وحروبٍ، وإِنْ كانت وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعيِّ تُظهِر فقط هذه الصَّورةَ؛ فالعالمُ العربيُّ عالمٌ غنيٌّ ومُعقَّدٌ ومُتناقضٌ في ذاتِ الوقتِ. إِنَّه عالمٌ غنيٌّ بالمواردِ الطَّبيعيَّةِ والإِقتصاديَّةِ، لدرجة أَنَّ الفقرَ يتغُّول فيه وبين سكَّانه بغض النَّظرِ عن بلادهم؛ وهو عالمٌ غنيٌّ بحضاراتٍ وثقافاتٍ وشعوبٍ سكَّانه وبكثرةِ مثقَّافيه وعلماءه، لدرجة أَنَّ حضارته تبدؤ وكأنها توقفت عند العصورِ الوسطى وأَنَّ المؤسساتَ التَّعليميَّةَ والدِّينيَّةَ تعاني من عدمِ التَّحديثِ لمواكبةِ الواقعِ المُعاصرِ؛ وهو عالمٌ مُتدَّينٌ جدًا، لدرجة أَنَّ التَّدُّين يصل فيه إلى حدِّ الأوصوليَّةِ المُتطرِّفةِ؛ وهو أرضُ الأنبياءِ والمؤمنين بالإلهِ الوَاحدِ-الخالقِ، لدرجة أَنْ يصل التَّطرُّفُ الدِّينيُّ ببعضِ أبنائها إلى يَضحوا أنبياءً كذبةً ومؤمنين بالتَّدميرِ والقتلِ باسِ الدِّينِ والإيمانِ بالإلهِ الواحدِ-الخالقِ؛ وهو أرضٌ الكرمِ والتَّقاليدِ والعائلةِ والزَّواجِ والتَّرابطِ بين أفرادِ الأسرةِ، لدرجة أَنَّ البُعدَ الفرديَّ والحريَّةَ الشَّخصيَّةَ لا تجدان مكانهما الصَّحيحَ في مجتمعٍ يغلب عليه الطَّابعُ البطريركيُّ والبُعدُ الجماعيُّ؛ إنه منطقةٌ لا يمكنها أَنْ تحيا بدون النِّساءِ وحضورهن الأصيلِ، لدرجة أَنَّ المرأةَ لا تملك فيها حريتها الطَّبيعيَّةَ وكرامتها الأنطولوجيَّةَ؛ إنه بلادٌ معروفةٌ بالتَّحيَّةِ العربيَّةِ المشهورةِ "السَّلامُ عليكم" ( التَّحيَّةِ الَّتي نسمعها منذ الصَّباحِ وحتى المساءِ)، لدرجة أَنَّ هذا التَّرديدَ اللَّفظيَّ والشَّفهيَّ أضحى صرخةً عميقةً خارجةً مِن أعماقِ كيانِ كُلِّ عربيٍّ…إلخ
وبعيدًا عن الرُّومانسيَّةِ واللَّعبِ بالألفاظِ يمكن القَولُ أَنَّ عالمنا العربيَّ أكثرُ تعقيدًا ممَّا تُقدِّمه لنا وسائلُ الاتصالاتِ الاجتماعيَّةِ؛ فهو عالمٌ يعاني في كثيرٍ مِن مناطقه مِن الفقرِ والجهلِ والمرضِ والتَّطرُّفِ والتَّزعزُّع وعدمِ الحوارِ وإهدارِ كرامةِ المرأةِ وحقوقها وعدمِ الرعايا الكفايةِ للشبيبةِ والطُّفولةِ، هذا بالرغم مِن مقدرته ورغبته في تحسينِ كُلِّ هذا وفي إصلاحِ ما أفسده البشرُ بأعمالهم غيرِ المسؤولةِ.
إِنَّ زيارةَ البابا بندكتس الـ16 إلى العالمِ العربيِّ وكلماتَه وأحاديثَه تلمس كُلَّ هذه القضايا المُعقَّدةِ وتريد تحريكها؛ وهي تُعبِّر أيضًا عن همومِ خليفةِ القديسِ بطرس وراعي الكنيسةِ الجامعةِ تجاه العالمِ كله، وخاصةً تجاه العالمِ العربيِّ وأحواله، وليس فقط تجاه مسيحي الشَّرقِ الأوسطِ.
إِنَّ مسيحي الشَّرقِ الأوسطِ، في الحقيقةِ، هم بمثابة جزءٍ أصيلٍ مِن مُكوِّناتِ العالمِ العربيَّ. فليس كُلُّ العربِ مسلمين، كما أَنُّه ليس كُلُّ المسلمين عربًا، فمسيحيو الشَّرقِ الأوسطِ هم أيضًا عربٌ؛ فالعروبةُ ليست ديانةً، ولا تقتصر على ديانةٍ بعينها، إِنَّما العروبةُ هي صفةٌ تَسِم النَّاطقين باللُّغةِ العربيَّةِ والقاطنين المنطقةِ العربيَّةِ والمساهمين في بناءِ الحضارةِ والثَّقافةِ العربيَّتين وتطويرهما. والتَّاريخُ شاهدٌ على أَنَّ المسيحيين بجميع طوائفهم مساهمون في بناءِ وتعزيزِ الحضارةِ والثَّقافةِ العربيَّتين، وليس فقط أَنَّهم يتحدَّثون اللُّغةَ العربيَّةَ ويساهمون في تطويرها وأَنَّهم يسكنون البلادَ العربيَّةَ ويعمِّرون فيها[3]. ومسيحيو اليومِ، كما فعل أجدادهم بالأمسِ، يُحبُّون أوطانهم ويريدون أَنْ يأخذوا على عاتقهم مسؤوليَّةِ تحديثِ العالمِ العربيِّ ليواكبَ مُتطلِّباتَ العصرِ الذَّي نعيش فيه.
بقلم أشرف ناجح إبراهيم / زينيت