وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الرسالة الخامسة والعشرين الى أبناء الطائفة المارونية، إكليروسا وعلمانيين، لمناسبة اليوبيل 1600 على وفاة القديس مارون وصوم سنة 2010، تحت عنوان: "في مار مارون…المارونية ولبنان".
وفي باب "الارض ولبنان الميثاق"، رأى "أن هناك مركز ثقل وهذا المركز هو لبنان، فالمارونية كتبت تاريخها الحقيقي الاول لا في كتب من ورق بل في كتاب أرضها، إذ كانت أرضا للعطاء وللعبادة وللدفاع عن الذات. فهي التعبير الاهم في استقلالية الموارنة وهي أفق حياتهم الوحيدة، والزمن الماروني العمودي، أي زمن الارض اللبنانية – المارونية بحدودها الجغرافية الطبيعية، ولهذا ربطت المارونية أرضها بالسماء وأدخلتها في إيمانها وأعطتها سمة القداسة. وإن الارض اللبنانية تربطهم بتاريخهم العريق، تاريخ قداسة وصراع من أجل البقاء والشهادة على الايمان والقيم الانسانية، ولذا فإن الذين يتخلون عن أرضهم عن طريق بيعها، خصوصا من غير اللبنانيين، إنما ينتهكون حرمة وطنهم، وخصوصا الذين يرقدون على رجاء القيامة السعيدة".
وعن الميثاق بين المجموعات اللبنانية قال البطريرك: "هذا الميثاق هو من أجل قضية، وهذا الميثاق بين الطوائف اللبنانية هو في جوهره فعل إرادة وحرية في آن. إنه تجسيد لقيم روحية متفاعلة ومسألة تنمية وترقية للانسان اللبناني العربي المشرقي، وليس مجرد تسوية ثنائية كما يتوهم البعض. إنه لبنان الرهان، ليس على الارض فقط بل على القضية الانسانية التي يطرحها وجودنا المميز الذي لا شبيه له في صيغ العالم، وبهذا فلبنان ليس ميثاقا ثنائيا بين مسلمين ومسيحيين بل ميثاق اقليات حضارية تقمصت في طوائف بشرية".
وأكد البطريرك "أن الميثاق هو فعل ثقة بالقضية اللبنانية، صاغته، بل التزمته الطوائف اللبنانية يوم هربت الى هنا وفي مقدمها الطائفة المارونية، فقد خسرت كل شيء إلا تراثها الروحي، وهكذا كان الميثاق جزءا من داخل ضمائرها، فصادقت عليه ضمنا كل أقلية قادمة الى هذه الديار، قبل أن يصاغ بتفاهم مكتوب أو غير مكتوب في مرحلة الاستقلال. ولانه تعبير عن إيمان وحقيقة وشرف، فإن ميثاقا كهذا لا يجوز أن يكتب لان ضمانه الوحيد هو الايمان بالله والثقة بالانسان. إن الميثاق أخذ وعطاء وفعل وفاء وثقة".
وختم البطريرك صفير رسالته بالقول: "منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنا وشعب لبنان وأرضه هما المحور الذي يدور حوله مصير الموارنة، ومع أن المارونية لم تولد في لبنان، ومع أن أكثرية الموارنة تعيش اليوم في دول الانتشار في العالم، فإن هذا الواقع لا يغير شيئا من الحقيقة المركوزة في قلب كل ماروني وعقله ووجدانه، أو يفترض أن تكون كذلك، بأن وطنهم الحقيقي كما أراده القديس مارون هو قبل كل شيء حيز روحي، وان المارونية هي مشروع حرية رمزها لبنان، وان مشروع الموارنة كما مشروع اللبنانيين هو تحرير الانسان، وهو مشروع مرفوع على ملتقى القارات الثلاث ليجسد مصير الشرق كله، مصير المعذبين والمتألمين والمهمشين فيه والمضطهدين في حرياتهم، بحيث تتلاشى أمنياتهم وتطلعاتهم نحو الارض والحرية".
نص الرسالة وجاء في نص الرسالة:
مدخل لما كانت سنة 2010 تصادف مرور ألف وستماية سنة على وفاة القديس مارون الناسك والكاهن وأبي كنيستنا المارونية، الذي هو "زينة في خورس القديسين الإلهيين"([1]). قررنا مع مجلس أساقفتنا إعلان هذه السنة سنة يوبيلية تبدأ في 9 شباط 2010 عيد أبينا القديس مارون، وتنتهي في 2 آذار 2011، عيد القديس يوحنا مارون البطريرك الأول، وتكون بعنوان "مار مارون – شهادة إيمان ومسيرة شعب". وتهدف هذه السنة اليوبيلية إلى الصلاة والتفكير والتوبة والعودة إلى التاريخ والتأمل فيه لأخذ العبر وإحياء القيم المارونية وتجسيدها من جديد في رسم استراتيجية كنيستنا للألفية الثالثة. وكنيستنا المارونية، إذ تحيي هذا اليوبيل، فهي تستجيب لمستلزمات ثلاثة: الزمن كبعد لله، واليوبيل كسنة مكرسة للرب وقديسيه، والمجمع كمحطة من محطات تاريخ كنيستنا "لأن الكنيسة لا تعيش إلا مجمعيا"([2]). الزمن في المسيحية هو بعد لله بفعل التجسد. فهو "تم بدخول الله عبر التجسد في تاريخ الإنسان. الأبدية دخلت في الزمن: "فهل من إتمام أعظم من هذا؟"([3]). هذا يؤكد أن "للزمن في المسيحية شأنا أساسيا"([4])، كما يؤكد أن "المسيحية ديانة متجذرة في التاريخ"، لأنه كما يقول تيار دي شاردان "تلاقى الله بالعالم من خلال شخص يسوع المسيح". و"من علاقة الله هذه مع الزمن ينشأ واجب تقديس الزمن"([5])، وبالتالي يتم تكريس أزمنة لله: أياما أو أسابيع أو سنوات لأن يسوع المسيح الذي هو سيد الزمن، "هو هو أمس واليوم.. وإلى الأبد" (عبر: 13/8). إن الاحتفال بسنوات اليوبيل هو أمر عرفه العهد القديم، وتواصل في تاريخ الكنيسة. فسنة اليوبيل هي سنة المسيح الرب المقبولة والمكرسة لله وقديسيه. إنها سنة المساواة والعدالة والغفران والمصالحة والتوبة، سنة النعمة الخاصة للإنسان وللجماعة. إنها سنة المحبة والفرح "لا الفرح الداخلي فقط بل الفرح الذي يظهر في الخارج"([6]).
إن المجمع البطريركي الماروني، كما سينودس الأساقفة من أجل لبنان، إنما يعكسان دور العناية الإلهية في التهيئة ليوبيل سنة مار مارون. حتى ليمكن القول إن السينودس والمجمع كانا في الحقيقة المدخل لهذا اليوبيل. فهو يوبيل بالغ الأهمية ليس فقط لدى الموارنة، بل لدى كافة المسيحيين وغير المسيحيين في لبنان والمشرق وبلاد الانتشار، نظرا لأصالة الموارنة وموقعهم في مسار الكنيسة الجامعة ودورهم على امتداد 1600 سنة من التاريخ.
فلئن كان المجمع البطريركي الماروني بمثابة "عنصرة الكنيسة المارونية"، فإن الاحتفال باليوبيل الألف وستماية سنة على وفاة مار مارون، هو بمثابة "ربيع جديد للحياة المارونية". وفي الحالتين "فإن كل يوبيل في تاريخ الكنيسة هو من تدبير العناية الإلهية"([7]) على حد قول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. ثلاثة عناوين تطبع هذا اليوبيل يهمنا أن نتناولها ونشدد ونؤكد عليها: أولا: ماذا يمثل لنا مار مارون اليوم؟ ثانيا: ماذا تعني لنا المارونية؟ ثالثا: أية علاقة بين المارونية ولبنان الأرض.. والقضية!
أولا: مار مارون: القداسة، القديس.. والكنيسة! 1- تفخر الكنيسة المارونية بانتسابها إلى القديس مارون شفيعها ومرشدها. والقداسة هي قبل كل شيء صفة لله وفي الله، بل هي ميزة جوهرية لدى الخالق. وكلما وفي كل مرة تتشوق الذات البشرية إلى المشاركة في الحياة الإلهية، اقتربت أكثر من قداسة الله. وبهذا كان يسوع المسيح الأول بين القديسين. واعتبر جميع الذين تعمدوا على اسم المسيح، مشمولين بألوهية الرب يسوع، وبالتالي فهم في عداد القديسين… وهي الصفة التي أطلقت على الجماعة المسيحية الأولى وحددت هويتها الروحية.
2- والقداسة هي قبل كل شيء علاقة خاصة بين الإنسان والله القدوس، أي المكرم. إن التعرف على القداسة هو المدخل للتعرف على القديسين في تاريخ الكنيسة. وفي المعاجم اللاهوتية، إن الله وحده قدوس لأن القداسة تعبير عن مدى قوته وكمال كيانه. كما تشمل أيضا الأشخاص والأشياء والأماكن الخاصة به والتي تعتبر من القدسيات. إن الله هو قدوس في ذاته وأما الإنسان فهو كائن مدعو إلى القداسة. وبحسب المجمع الفاتيكاني الثاني فإن كل الشعوب مدعوة إلى القداسة بفعل انتسابها إلى الكنيسة إذ باشتراكهم بقداسة الكنيسة يصبحون مقدسين لأن القداسة أعطيت للكنيسة بواسطة المسيح. وفي بداية الكنيسة كان القديسون هم الشهداء الذين جسدوا البطولة الروحية في مواجهة الاضطهاد والظلم. وفي ما بعد وضعت الكنيسة المبادئ والأسس والشروط لإعلان القديسين!
3- إن طريق القداسة يتحدد خارج الزمان والمكان بدينامية العلاقة بين الإنسان والله، ذلك أن رؤية الله والتمتع بالخلاص في أخدار الأبرار والقديسين هو هدف نهائي لدى الإنسان المؤمن. لكن هذه الطريق مليئة بالصعاب والعذابات والآلام في صراع الجسد والروح للوصول إلى ما يسميه اللاهوتيون: "الانتماء إلى الله لا إلى الذات"، وممارسة "صلاة القلب" لا صلاة الشفاه ومن ثم الى أن يحقق المؤمن في شخصه وفي ممارسته المثال الأعلى للدين أي: الحب المطلق لله وعمق الإيمان بالمسيح يسوع مما يستدعي التضحية الكاملة ونسيان الذات، أي: إماتة الجسد من أجل تحرير الروح. 4- إن ممارسة الفضائل المسيحية في ما يتخطى الإمكانيات البشرية وصولا إلى درجة البطولة، تسمح بأن يمنح الله القديس ميزات وقدرات فائقة للطبيعة بما يمكنه من اجتراح العجائب. وهذه القداسة ترفع صاحبها إلى مصاف الشفيع الذي يفتح الطريق للناس لقبول النعمة الإلهية ويصبح أشبه بمنارة في العتمة وفي قلب العاصفة تضيء الطريق للنفوس التائهة والمعذبة كي تجد طريقها الصحيح في مسيرتها نحو الله. فالقديسون، كل القديسين، يحيون جميعا في عمق الإيمان الثابت والمؤكد والذي لا حدود له إذ يبقى مشعا في ذاتهم حتى بعد وفاتهم. إنه إيمان لا يمكن أن يتجلى ويتجذر ويتجدد باستمرار إلا بفضل علاقتهم الخاصة بالله الآب وبالرب يسوع وبالروح القدس. إنه "الايمان الراسخ الذي كان الأساس في قيام الكنيسة المارونية".
5- إن المرحلة التاريخية التي عاش فيها مار مارون في شمال سوريا وقبله القديس أنطونيوس الكبير في مصر، والواقعة ما بين القرنين الثالث والخامس، هي مرحلة تحولات كبرى في مسار الكنيسة إذ أصبحت المسيحية ديانة الأمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية في الغرب وفي الشرق. يومها انبلج "تاريخ أصفياء الله"، "وكان مارون أول من غرس حديقة النسك في المنطقة"([8]) عبر مغامرة روحية ريادية أطلقها القديس أنطونيوس وجسدها القديس مارون ومؤداها: أن نفوسا مؤمنة وجدت أنها غير قادرة على إدراك الكمال داخل المجتمع: إما لأنه وثني، وإما لأنه مسيحي بالمظهر فقط، ولهذا قرروا ترك العالم لكي يلاقوا الله مباشرة وعاموديا.. وفي العراء. وهذا هو المعنى الحقيقي للتجربة النسكية والديرية التي انتشرت آنذاك وشكلت طوال قرون، النموذج الأهم للحياة المكرسة. لقد وصل الأمر بهذه الجماعة إلى حد القطيعة مع العالم "المدنس"، وعمد تيار الحبساء إلى تجسيد القداسة المسيحية بفضل حفنة من المختارين والأصفياء القادرين والمتحمسين على حمل الرسالة الإنجيلية في صفائها الأول. فأصبح الناسك أو الراهب العائش في الزهد والتقشف والحامل حرارة الإيمان بالله شأن مار مارون، هو المدافع لا عن حقوق الكنيسة وإبراز تفوق الإيمان المسيحي فحسب، بل المؤكد على أن الشخص البشري الذي من أجله تجسد الله إنسانا بشخص يسوع المسيح هو حامل لقيم أكثر أهمية حتى من الحياة نفسها. في هذا الإطار، ومن ضمن هذه الرؤية، تبلورت الفلسفة الماورائية أو الأخروية لمار مارون وتلامذته من النساك والرهبان والزهاد في القرن الخامس.
6- هذا البعد الأخروي المبني على الهبة الشخصية هو الذي منح القديس مارون القدرة على تشكيل حالة روحية غير عادية كانت في أساس بناء كنيسة غير نمطية (athypique)متميزة عن الأنموذج العام لبناء الكنائس. فلم تبن على اسم حاضرة أو رسول بل أخذت أصولها من إشعاع رجل وإشعاع دير: إنها الكنيسة المارونية. فهي كنيسة نسك وعبادة. ارتبطت منذ البداية برجل حبيس لا برجل ذي منصب أو زعيم كنسي. ومع تطويب شربل ورفقا والحرديني تعود الكنيسة المارونية إلى ذاتها وإلى تاريخها الممتد عبر العصور، إلى جذورها، إلى هويتها الأولى مع مار مارون: كنيسة للنساك والقديسين! أجل، إن أولى سمات هوية هذه الكنيسة تعود إلى فرادة المؤسس، والأساس. مار مارون، هذا الداعية الإنجيلي النبوي بالمفهوم البولسي الذي استطاع بإيمانه الحي ونشاطه الخارق ونمط حياته المثالي وكرازته النبوية وإشعاعه وتألقه في محيطه أن يضع القاعدة الروحية لكنيسة حملت اسمه استثناء عن بقية الكنائس فصار رأس كنيسة منسوبة إليه. إن هذا الاستحقاق الاستثنائي لمار مارون الذي منحه سمة القائد الروحي في سوريا الشمالية، ومن ثم في لبنان، يعود إلى الجذرية الإنجيلية التي تجسدت في ممارسته لثلاثة أنواع من فضائل البطولة:
-البطولة الرسولية في هداية الوثنيين في الريف السوري وبناء الكنائس فوق هياكلهم بدءا من جبل سمعان: هاديا ومبشرا بالكلمة. -البطولة الروحية وتعبيرها في تمسكه بالمثل المسيحية العليا إلى درجة الاستشهاد الحي تشبها بالمسيح في قهر الجسد: الإقامة في العراء غير الثابت وفوق عمود تعبيرا عن التعلق بالوطن السماوي واقترابا من الله وانفتاحا على السماء والتحرر من الأرض إلى درجة الانفصال عنها. حسبه في ذلك التشبه بالمسيح الذي سمر على الصليب في العراء. -البطولة الإنسانية حيث يلتقي الإيمان والإنسانية في خدمة شعب الله جسديا وروحيا بقوة العجائب التي اجترحها القديس مارون مستلهما ومستعينا في كل ذلك بالروح القدس كونه كاهنا لا ناسكا فقط. هذه البطولة الجذرية بأبعادها الثلاثة فرضت نفسها على التاريخ الديني – الاجتماعي في عصره، وبعد عصره.. إذ جعلت منه قوة تأسيس في الكنيسة والجماعة، أي جعلت منه رجل بدايات! وهذا يفسر معنى الصراع على مكان دفنه آنذاك، كما يفسر استمراره عبر الزمن واحتفالنا بيوبيله الألف وستماية اليوم.
ثانيا: في المارونية: الوجدان.. الذاتية… والهوية. 7 – يمكن تعريف المارونية "بأنها حركة مسيحية روحية ثقافية تجديدية أطلقها القديس مارون وهي تجسد شوق الإنسان المطلق إلى الله وتوقه المطلق إلى الحرية ودوره الإنجيلي في خدمة محيطه ترقيا وانفتاحا. ولذا فهي ترى في التنسك مرقاة مباشرة إلى الله، وفي الخلقيدونية التعبير الإيماني حول طبيعة المسيح، وفي لبنان أرضا لميعادها، ومعقلا لحرية الإنسان".
8 – إن الكلام على "المارونية" (La Maronité) هو أكثر اتساعا من الكلام على الكنيسة المارونية لأنه يشمل العديد من المظاهر والأفكار المارونية المتعددة والمتنوعة التي لا يمكن أن تدخل إلا جزئيا في إطار الواقع الكنسي الماروني. فلقد مر الموارنة بخمس مراحل متعاقبة: من فرد هو "مار مارون" إلى مجموعة (Groupe) هي "الموارنة" فإلى جماعة دينية منظمة (Collectivité) هي "بيت مارون"، ومن ثم إلى جماعة مؤسسة (Communauté) هي "المارونية" (Le Maronitisme) بوجهيها الروحي الكنسي = الكنيسة المارونية، والسوسيولوجي أي الطائفة المارونية. وبهذا تكون "المورنة قد انتقلت إلى مستوى الوجدان الجماعي للطائفة أو ما يسمى: الإيديولوجيا المارونية أو العقيدة المارونية. والتي قال فيها أحد المؤرخين: "يمكن اعتبار الموارنة شعبا قائما بذاته يتميز بخصائص إتنية، ومذهب واحد، وتاريخ قديم. فهم عاشوا على مدى أجيال في بقعة محصورة واحدة وتكلموا في حين من الزمن لغة مميزة، ما زال لها أثر في كتبهم الدينية (هي السريانية).. واحتفظوا بذكريات تاريخية تتصل بالماضي القريب. وكان لهم إضافة إلى ذلك تاريخ سياسي وحياة سياسية مستقلة تحولت في ذاكرتهم إلى أسطورة وطنية. ولعبت الكنيسة المارونية التي هي أكثر المؤسسات صمودا واستقرارا في تاريخ الشعب الماروني دورا خطيرا للحفاظ على فكرة الكيان الوطني وتطويره والدعوة إليه"([9]).
إن مقاربة علمية لتاريخ الموارنة تؤكد أن العقيدة المارونية هي المحور الأهم في تاريخ الجماعة المارونية ببعديها الديني والمجتمعي لأنها تخدم مصالحها وتعكس نفسيتها وتطلعاتها وتضبط ممارساتها وتحدد أهدفها وتفسر واقعها في حاضرها وماضيها، وتعكس نظرتها إلى المستقبل، وتبلور استراتيجيتها للوصول إلى غاياتها وتشكل معيار فاعليتها التاريخية والبوصلة الضرورية لتحديد علاقتها بالآخرين! وطوال تاريخها أكدت الجماعة المارونية على إيمانها بأمرين متلازمين متكاملين كقاعدة لهذه الإيديولوجية وكتعبير عن القضية اللبنانية: النضال الروحي لتحرير الإنسان، ولبنان الحرية كرمز لهذا التحرير والذي لا يطاول الموارنة وحدهم، بل ينسحب على النسيج العائلي اللبناني بكل طوائفه!
9 – تنطلق المارونية من ينبوع أساسي هو الوجدان الماروني. وهو وجدان تبلور عبر التاريخ ولا سيما في زمن الأزمات التي تعرض ويتعرض لها الموارنة. ويختصر البطريرك الدويهي هذا الوجدان التاريخي بأربعة: "تاريخ جماعة، تملك بنية دينية مميزة، وتحيا في محيط أوسع يهددها في كل ظرف، وشعب يهب للدفاع عن ذاته". ولكي يكتسب هذا الوجدان معناه الحقيقي لا بد له من "حدث مؤسس للتاريخ الماروني". وهذا الحدث هو هجرة الموارنة من أرض سورية إلى أرض لبنان. وكما يقول المطران حميد موراني: "لا فرق إن تمت الهجرة المارونية دفعة واحدة أو على دفعات خلال عصور، بل المهم أن الموارنة يضعون في أساس تاريخهم الهرب من الإضطهاد والبحث عن الحرية والاستقلال بالذات. فوجدان كل ماروني يولد من هذا المعنى، وسيبقى هذا المعنى المبدأ المفسر لكل أحداث تاريخ الموارنة وسيبقون في حدود هذا التاريخ"([10]). أبعد من ذلك، فإن البعد الإيماني يعطي المعنى لتاريخ الموارنة. فالإيمان الذي عاشه الناسك مارون أصبح قوة تفعل في تاريخ شعب. "وأما الهجرات المتوالية من سورية فقد حملها الموارنة معنى واحدا، وهو معنى التخلي عن الراحة والأرض والغنى في سوريا إلى أرض فقيرة فيها الزهد والقلق، وكل ذلك أمانة لإيمانهم وتعلقا بحريتهم… وهذا الحدث (بالنسبة إلى الموارنة) ليس مجرد حدث في سلسلة أحداث التاريخ.. إنه بداية تاريخ جديد هو تاريخ الموارنة"([11]).
10- سمة أساسية من سمات هذه "المارونية" هي الذاتية، وتحديدا الذاتية المارونية وتعبيرها الهوية المارونية. ويتناول الفصل الثاني من نصوص المجمع البطريركي الماروني (2006) "هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها"، فيرى أنها: 1) "كنيسة انطاكية سريانية ذات تراث ليتورجي خاص؛ 2) وكنيسة خلقيدونية النسبة؛ 3) وكنيسة بطريركية ذات طابع نسكي ورهباني: 4) وكنيسة في شركة مع الكرسي الرسولي الروماني؛ 5) وكنيسة متجسدة في بيئتها اللبنانية والمشرقية؛ 6) ومتجسدة في بلدان الانتشار"([12]). بالإضافة إلى عناصر انتماء الكنيسة المارونية هذه، فقد برز تأثيرها 1) في كون مؤسسها رجلا هو القديس مارون؛ 2) وفي كونها لم تبن على قاعدة إتنية أو عرقية أو جغرافية أو سلطوية؛ 3) كما ظهرت خصوصيتها في انتقالها من القاعدة – الدير إلى القاعدة – الوطن؛ 4) ومن مناجاة الله من قلب الدير ومن فوق العامود، إلى مناجاته من فوق الجبل، كما في قدرتها الهائلة على الجمع بين المحدودية (دير مارون والخط العامودي) وبين الكونية (العالم والخط الأفقي)، وذلك بفضل إيمانها الكاثوليكي وانتشارها في أقطار العالم وتعبيراتها الثقافية في مختلف لغات العالم. وهكذا، بفضل الجمع بين عناصر انتماء الكنيسة المارونية الستة تلك وعناصر هويتها الأربعة هذه، يمكن التأكيد على أن الجماعة المارونية بلغت مرحلة الذاتية المميزة وهي ذاتية حضارية تاريخية لها حياتها ومقوماتها وميزاتها الخاصة. وهي هذه المميزات العشرة التي كان لها دورها الرائد والمركزي في إبراز القضية اللبنانية وفي صياغة الميثاق الذي يجسد هذه القضية.
إن الهوية المارونية ليست هي الهوية اللبنانية بل هي مكون أساسي من هذه الهوية. فالهوية اللبنانية مكونة من هويات متعددة هي هويات الطوائف. إنها المألفة (Synthèse) الجامعة بين هذه الهويات المختلفة والمؤتلفة في ميثاق الحياة المشتركة وهو ما أعطى لبنان ميزته وجعل منه استثناء في العالم العربي بقيام نظام يحترم الكرامة البشرية ويتيح ممارسة الحريات الأساسية، الشخصية منها والجماعية، ويتبنى الديمقراطية نظاما للحكم. وبناء عليه، فإنه من حظ اللبنانيين أن القوى العقائدية الشمولية القومية منها والدينية والأصولية لم تصل إلى حكم لبنان حتى الآن على الأقل. وعلى جميع اللبنانيين الواعين أن يناضلوا كي لا يقع وطنهم في مثل هذه المأساة، وهذه التجربة القاتلة التي يعانون منها اليوم ويواجهونها تحت تهديد السلاح! إن في ذلك إنهاء لهوية لبنان ومعناه ودوره حين يصبح البلد مربوطا بمرجعيات خارجية ليس بالمعنى الثقافي فحسب بل بالمعاني السياسية والعسكرية والإيديولوجية والمذهبية أيضا. ففي مثل هذا التوجه وهذه المحاولة التي يتعرض لها شعب لبنان نفي للبنان وتمزيق لهويته الوطنية وإلغاء لحرية أبنائه ومدخل إلى الحرب الداخلية فيه. بكل اختصار، إن الذين يقومون بذلك إنما يعملون لزوال لبنان. ثالثا: المارونية – الأرض .. ولبنان – الميثاق 11 – إن الغنى الماروني المتمثل بالانتشار في العالم، وبتعدد المجالات الثقافية عبر القارات، كان يمكن أن يتفكك، والشخصية المارونية ذاتها كان يمكن أن تتشظى "لو لم يكن هناك مركز ثقل (Centre de gravité) معد لتأمين وحدة الموارنة والمحافظة على تماسكهم، وهذا المركز هو لبنان. ولقد كان هدف البطاركة التاريخي في نقل مقراتهم فوق الجغرافية اللبنانية من كفرحي إلى يانوح إلى إيليج إلى قنوبين إل بكركي بالإضافة إلى المستلزمات الأمنية، تأكيد ومباركة هذا الزواج الذي لا انفكاك فيه والذي يقوم على الحب بين الماروني وأرض لبنان"([13]). فالمارونية كتبت تاريخها الحقيقي الأول، لا في كتب من ورق، بل في كتاب أرضها إذ جعلتها أرضا للعطاء وللعبادة وللدفاع عن الذات. "فهي التعبير الأهم عن استقلالية الموارنة، وهي أفق حياتهم الوحيد"([14]). لقد كان الزمن الماروني الأول زمنا عاموديا، أي زمن الأرض اللبنانية المارونية بحدودها الجغرافية الطبيعية ولهذا ربطت المارونية أرضها بالسماء وأدخلتها في إيمانها وأعطتها بالتالي سمة القداسة. لقد صارت أرض لبنان أفقا ومنطلقا للموارنة، وهذا يعني الربط المحكم بين أرض لبنان وتاريخ الموارنة.
12- إن الأرض اللبنانية هي "إرث تكونت من خلاله وعليه الهوية التاريخية المارونية" والموارنة مهما فعلوا في العالم "يبقون بحاجة إلى الأرض التي تجسد هويتهم الخاصة والتي تربطهم بتاريخهم العريق، تاريخ قداسة وصراع من أجل البقاء والشهادة على الإيمان والقيم الإنسانية"([15]). فلقد ارتبط التاريخ الماروني بلبنان أرضا ووطنا.. والأرض هي الوطن والكيان، وقيمتها هي في ما تجسده من قيم وخبرة وبعد حضاري ووجودي. ولقد ارتبط اسم لبنان بالموارنة باعتبارهم "جزءا أساسيا من كيانه التاريخي والسياسي"، وحيثما ارتحل الموارنة وحلوا، وتفاعلوا مع أوطانهم لجديدة، فإنهم لن ينسوا أرض المنشأ، أرض لبنان التي تبقى في وجدانهم أرض أجدادهم وقديسيهم ومرجعيتهم البطريركية"([16]).. ولأن "الحفاظ على الأرض هو حفاظ على الهوية، ولأن الحفاظ على الهوية هو حفاظ على الكيان والديمومة"([17]).
13- يصف الإرشاد الرسولي لبنان "بأنه مهد ثقافة عريقة وإحدى منارات المتوسط. ولا يجهل أحد إسم بيبلوس التي تذكر ببدايات الكتابة" وفيه أصبحت المسيحية "عنصرا جوهريا من ثقافة المنطقة"، "والجماعات المختلفة فيه هي بالنسبة إلى هذا البلد ثروة فرادة وعقبة في آن… غير أن إحياءه هو مهمة مشتركة"([18]). لقد عمل الموارنة خصوصا، والمسيحيون اللبنانيون عموما، لتحقيق هدفين متلازمين على امتداد تاريخهم: إقامة لبنان الدولة والكيان والمحافظة عليه وتثبيت نهائيته. تأكيد حضورهم فيه وبالتالي القيام بدور أساسي وفعال داخل هذا الكيان. وما دام للوطن بعدان: حضور في المدى.. واستمرار في الزمن، فإن أرضه "أم تجب محبتها، فقيرة كانت أم غنية. إنها الأرض المغذية التي تختزن كنوز التاريخ، وقد شهدت وقائعه ورافقت أجياله، وطبعت جميع الذين أبصروا النور عليها وضمتهم، في مساء العمر، إلى صدرها، ليروي الخلف عن السلف ما نسجه في حياته من تاريخ"([19]). ولذا فإن "الذين يتخلون عن أرضهم عن طريق بيعها، خاصة لغير اللبنانيين، إنما ينتهكون حرمة وطنهم وخاصة الذين يرقدون في طبقاتها على رجاء القيامة السعيدة"([20]).
14 – على أهمية تعلقنا بلبنان الأرض المقدسة، ولبنان الرمز في تاريخ الموارنة، فإن لبنان، في ما يؤكد ذلك ويتخطاه ويبرره دينيا وفلسفيا وتاريخيا هو قبل كل شيء، وبعد كل شيء "ميثاق من أجل قضية". "فلكي يكون، لا يحق للبنان أن يكون كيف ما كان، فإما أن يكون قضية مطروحة على الإنسانية في الشرق وفي العالم أو لا يكون"([21]). تلك هي دعوته التاريخية، وذاك هو معنى أن يكون "الوطن – الرسالة" كما وصفه الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني. هذا الميثاق بين الطوائف اللبنانية هو في جوهره فعل إرادة وفعل حرية في آن. إنه تجسيد لقيم روحية متفاعلة. إنه مسألة تنمية وترقية للإنسان اللبناني – العربي – المشرقي، وليس مجرد تسوية ثنائية كما يتوهم البعض! إنه لبنان الرهان، ليس على الأرض فقط، بل على القضية الإنسانية التي يطرحها وجودنا المميز والذي لا شبيه له في صيغ العالم. وبهذا "فلبنان ليس ميثاقا ثنائيا بين مسلمين ومسيحيين بل ميثاق أقليات حضارية تقمصت في طوائف بشرية"([22]).
15 – الميثاق هو فعل ثقة بالقضية اللبنانية صاغته، بل التزمت به الطوائف اللبنانية يوم هربت إلى هنا، وفي مقدمتها الطائفة المارونية، فقد خسرت كل شيء إلا تراثها الروحي الذي سلم وحده من التدمير. لقد أدركت هذه الطوائف، منذ نزولها في لبنان، أنها إنما جاءت لصون هذا التراث. وهكذا كان الميثاق جزءا من دواخل ضمائرها، فصادقت عليه ضمنا كل أقلية قادمة إلى هذه الديار قبل أن يصاغ بتفاهم مكتوب أو غير مكتوب في مرحلة الاستقلال. ولأنه تعبير عن إيمان وحقيقة وشرف "فإن ميثاقا كهذا لا يجوز أن يكتب لأن ضمانته الوحيدة هي الإيمان بالله والثقة بالإنسان"([23]). وهذه القضية تمثل أكبر تحد للإيديولوجيات الشمولية والعرقية والدينية والأصولية التسلطية في المنطقة، وهو ما جعل هذه الإيديولوجيات تعلن عداءها لقضيتنا ولوجودنا من الأساس شعبا وكيانا ودولة ونظاما.. ولا تزال! وهو ما يحملنا جميعا مسؤولية تاريخية كي نحمي وننقذ ميثاق الحياة المشتركة بين كافة الطوائف اللبنانية، والذي كان وسيبقى فعل إرادة وفعل حرية في آن. خاتمة لقد أعطى القديس مارون كنيستنا وشعبنا ووطننا إحدى المكونات والمبررات الأساسية كي تكون لنا قضية، بل أن نكون جميعا كلبنانيين نحن القضية: القضية الأم. ويكفي أن يشار إلى أنها قضية إنسانية حضارية لاهوتية تجسدت في الميثاق بين اللبنانيين، فكان بتنوعه وغناه ومداه "أعظم مبادرة إنسانية عرفتها الشعوب". فالميثاق بين اللبنانيين مثلث الوجوه: واحد ينظر إلى الإنسان والثاني إلى التاريخ.. والثالث إلى الله. وبهذا حول الميثاق لبنان "من موئل إلى معقل، ومن منفى إلى وطن"، إذ صار لبنان وطن الأقليات بشرا ووطن الأكثريات حضارة. فأصبح خلاصة الشرق والوريث البكر للثروة المشرقية".
أما المعنى اللاهوتي للبنان، فيطرح مسألة علاقة الأديان وتحاورها وتفاعلها. ولا سيما اللقاء والحوار بين المسيحية والاسلام: هذا اللبنان الرمز والنموذج والمختبر ووطن القيم المتفاعلة عبر الميثاق يهوي من عليائه إذا تحول الميثاق عن جوهره وأصبح مجرد مطامع متضاربة ومفاوضة ومقايضة ومحاصصة ومجرد تسوية وتوازنات. عندها يبان الطائفية ويكشف عن أنيابه كأخطر مؤامرة على القضية، لأنه يسقط الرهان على الانفتاح والحوار ويفرض الانغلاق والزبائنية والإقطاعية.
أجل، إن وجودنا مبني على الميثاق ومبرر به، والميثاق أخذ، وعطاء، وفعل وفاء، وثقة. فنحن في هذا نثبت ذاتنا ولا نطلب ضمانة من أحد. فالضمان للبنان هو الإيمان به كميثاق من أجل قضية. وهي قضية من أشرف قضايا العصر، لأنها قضية الخصوصية والفرادة إنسانيا ولاهوتيا وجغرافيا. ففي هذا الشرق المسطح جغرافيا والموحدن ثقافيا والمتماثل سياسيا وتسلطيا والمنبع للديانات الموحدة، يشكل لبنان وضعا شاذا على كل هذه المستويات: فهو منطقة جبلية لا صحراوية بجغرافيته وهو تعددي بثقافته، وهو متنوع بدينه، وهو ديمقراطي بسياسته. إنه تعددي في كل شيء، وهذه هي فرادته في قلب الوحدنة (Unicité)بذلك تتحدد قيمته ومبرر وجوده.
منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنا، وشعب لبنان وأرضه هما المحور الذي يدور حوله مصير الموارنة. ومع أن المارونية لم تولد في لبنان، ومع أن أكثرية الموارنة تتواجد اليوم في دول الانتشار في العالم، فإن هذا الواقع لا يغير شيئا من الحقيقة القائلة، والمركوزة في قلب كل ماروني وعقله ووجدانه أو يفترض أن تكون كذلك، بأن وطنهم الحقيقي، كما أراده القديس مارون، هو قبل كل شيء حيز روحي (Espace spirituel)، وأن المارونية هي مشروع حرية رمزها لبنان، وأن مشروع الموارنة، كما مشروع اللبنانيين، هو تحرير الإنسان وهو مشروع مرفوع على ملتقى القارات الثلاث يجسد مصير الشرق كله: مصير المعذبين والمتألمين والمهمشين فيه والمطرودين من أوطانهم والمضطهدين في حرياتهم، بحيث تتلاقى في وطن الأرز أمنياتهم وتطلعاتهم للأرض والحرية.فمع مار مارون، والموارنة ومن ثم مع جميع العائلات الروحية التي قصدت لبنان تباعا، ولا تزال، تحددت مشروعية لبنان الكيان قبل أن تترسم حدوده السياسية، وخلاصتها: "أن لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي جعل وجوده قضية. لأجلها كان وسيكون، أو لن يكون، بدونها لا حاجة لوجوده، ومعها وجوده ضرورة عالمية". .. أجل، إن عطر قداسة مار مارون، كان وسيبقى الخمير الحي والأريج الفواح لربيع الموارنة المتجدد والدائم عبر التاريخ!
وكي تعطي هذه السنة اليوبيلية ثمارها المرجوة، عمدنا إلى تعيين لجنة مركزية برئاسة سيادة المطران بولس إميل سعاده، وعضوية سيادة المطران يوسف أنيس أبي عاد، وسيادة المطران سمعان عطالله، وسيادة المطران يوسف محفوظ، والمونسنيور منير خيرالله أمينا عاما، والأب كرم رزق عن الرهبانية اللبنانية المارونية، والأب عبدو أنطون عن الرهبانية المريمية المارونية، والأب سركيس الطبر عن الرهبانية الأنطونية المارونية، والأب مروان تابت عن جمعية المرسلين اللبنانيين، والخوري ناصر الجميل، والأب هاني مطر، والأم دومنيك الحلبي والأخت جورج ماري عازار عن الرهبانيات النسائية، والدكتور نبيل خليفه والدكتور أنطوان الخوري حرب، والدكتور أنطوان سعد. وكلفناها القيام بالترتيبات اللازمة ومواكبة الاحتفالات والنشاطات الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية، مستلهمة الروح القدس في السير على خطى القديس مارون وحمل الرسالة الإنجيلية والشهادة للمسيح.
وإننا ندعو كل أبنائنا الموارنة، أينما وجدوا، في لبنان وفي بلدان النطاق البطريركي وفي بلدان الانتشار، كما ندعو الأبرشيات والرهبانيات والجامعات والمدارس والمؤسسات والجمعيات الكنسية والمدنية والمجموعات والنوادي والروابط، إلى الإحتفال بهذه السنة اليوبيلية إنسجاما مع ما ترسمه اللجنة المركزية ومع ما يتناسب وأوضاعها وحضورها وشهادتها في بلدان وجودها، حاملة بشارة الإنجيل بنكهة القديس مارون النسكية.
وندعوهم جميعا إلى تنظيم إحتفالات دينية وزياحات وتطوافات ونشاطات ثقافية واجتماعية. وإلى تنظيم زيارات حج إلى الأماكن المارونية المقدسة والمراكز البطريركية. وقد عينا المراكز التي تمنح فيها الغفرانات خلال سنة اليوبيل على الشكل التالي: دير مار يوحنا مارون كفرحي، دير سيدة إيليج، دير سيدة قنوبين، دير سيدة بكركي، موقع قبر مار مارون في براد قرب حلب.
عسى أن يستجيب لنا الله بشفاعة أبينا القديس مارون وجميع قديسينا وله منا هذه الصلاة: أيها الرب الإله، يا من دعوت صفيك مار مارون إلى السيرة النسكية، وكملته بالفضائل الإلهية، وأرشدته في الطريق الصعب إلى الملكوت السماوي؛ نسألك في يوبيل ألف وستماية سنة على دعوة صفيك مارون المختار إلى بيت الآب السماوي، وبشفاعته، أن تغمرنا بمحبتك، فنسلك في سبلك، ونرعى وصاياك، ونسير على خطى أبينا القديس مارون، فتنبض سيرته المقدسة في أرجاء حياتنا، ونبلغ من حبك الغاية التي بلغ، ونحمل إنجيلك في هذا المشرق وفي العالم كله، ونهتدي به إلى مجد القيامة والحياة الدائمة فيك، لك المجد والشكر وإلى أبيك المبارك وروحك الحي القدوس، إلى الأبد. آمين. التفسيح من الصوم والقطاعة من المعلوم أن الصوم يقوم بالإمتناع عن الأكل والشرب من نصف الليل إلى الظهر – عدا الماء الذي لا يفسخ الصوم – وأن القطاعة تقوم بالإمتناع عن أكل اللحم والبياض. ولكننا نظرا إلى أنه ليس بإمكان البعض من أبنائنا أن يجدوا الطعام المنوع الذي يحتاجون إليه، وهذا ما يضطرهم إلى الإكتفاء بما في متناولهم، نفسح من هاتين الشريعتين من صوم 2010 إلى صوم 2011 كما يلي:
1- نسمح بأكل البياض في هذه المدة.
2- يجب الصوم والإنقطاع عن أكل اللحم في يوم اثنين الرماد ويوم الجمعة من أسبوع الالام.
3- يجب الإنقطاع عن أكل اللحم يوم الجمعة على مدار السنة، غير أنه يمكن أكل اللحم يوم الجمعة إذا وقعت فيه الأعياد الواجبة بطالتها، وهي:
أ- الميلاد، رأس السنة، والغطاس، ومار مارون، ومار يوسف، ومار بطرس وبولس، وانتقال العذراء، وارتفاع الصليب، وجميع القديسين، والحبل بلا دنس، وعيد شفيع الرعية.
ب- وفي الفترة الواقعة بين عيدي الميلاد والغطاس.
ج- وفي الفترة الواقعة بين عيدي الفصح والعنصرة
د- وفي أسبوع المرفع.
لقاء التمتع بهذا التفسيح، نحض أولادنا الأعزاء على أن يعنوا بالأمور الروحية ويتمموا الواجبات الدينية ويمارسوا أعمال التقشف والإماتة والمحبة ولا سيما تجاه المحتاجين والمرضى وأن يخصص القادرون منهم نفقة يوم في الأسبوع طوال هذا الصوم لمساعدة اخوانهم المعوزين يدفعون بدلها لصندوق المساعدات في أبرشيتهم، ليكون صومهم مشاركة محسوسة في التقشف والالام، وأن يصلوا على نية الحبر الأعظم لأجل إحلال السلام في ربوعنا وفي العالم أجمع، ومن أجل تطبيق ما جاء في الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" وارتداد الخطأة إلى التوبة وانتصار أمنا الكنيسة المقدسة وتحقيق وحدتها، ومن أجل نجاح تطبيق تعليم مجمعنا وهذا خير ما يقومون به بدلا من الصوم والقطاعة".
وعن الميثاق بين المجموعات اللبنانية قال البطريرك: "هذا الميثاق هو من أجل قضية، وهذا الميثاق بين الطوائف اللبنانية هو في جوهره فعل إرادة وحرية في آن. إنه تجسيد لقيم روحية متفاعلة ومسألة تنمية وترقية للانسان اللبناني العربي المشرقي، وليس مجرد تسوية ثنائية كما يتوهم البعض. إنه لبنان الرهان، ليس على الارض فقط بل على القضية الانسانية التي يطرحها وجودنا المميز الذي لا شبيه له في صيغ العالم، وبهذا فلبنان ليس ميثاقا ثنائيا بين مسلمين ومسيحيين بل ميثاق اقليات حضارية تقمصت في طوائف بشرية".
وأكد البطريرك "أن الميثاق هو فعل ثقة بالقضية اللبنانية، صاغته، بل التزمته الطوائف اللبنانية يوم هربت الى هنا وفي مقدمها الطائفة المارونية، فقد خسرت كل شيء إلا تراثها الروحي، وهكذا كان الميثاق جزءا من داخل ضمائرها، فصادقت عليه ضمنا كل أقلية قادمة الى هذه الديار، قبل أن يصاغ بتفاهم مكتوب أو غير مكتوب في مرحلة الاستقلال. ولانه تعبير عن إيمان وحقيقة وشرف، فإن ميثاقا كهذا لا يجوز أن يكتب لان ضمانه الوحيد هو الايمان بالله والثقة بالانسان. إن الميثاق أخذ وعطاء وفعل وفاء وثقة".
وختم البطريرك صفير رسالته بالقول: "منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنا وشعب لبنان وأرضه هما المحور الذي يدور حوله مصير الموارنة، ومع أن المارونية لم تولد في لبنان، ومع أن أكثرية الموارنة تعيش اليوم في دول الانتشار في العالم، فإن هذا الواقع لا يغير شيئا من الحقيقة المركوزة في قلب كل ماروني وعقله ووجدانه، أو يفترض أن تكون كذلك، بأن وطنهم الحقيقي كما أراده القديس مارون هو قبل كل شيء حيز روحي، وان المارونية هي مشروع حرية رمزها لبنان، وان مشروع الموارنة كما مشروع اللبنانيين هو تحرير الانسان، وهو مشروع مرفوع على ملتقى القارات الثلاث ليجسد مصير الشرق كله، مصير المعذبين والمتألمين والمهمشين فيه والمضطهدين في حرياتهم، بحيث تتلاشى أمنياتهم وتطلعاتهم نحو الارض والحرية".
نص الرسالة وجاء في نص الرسالة:
مدخل لما كانت سنة 2010 تصادف مرور ألف وستماية سنة على وفاة القديس مارون الناسك والكاهن وأبي كنيستنا المارونية، الذي هو "زينة في خورس القديسين الإلهيين"([1]). قررنا مع مجلس أساقفتنا إعلان هذه السنة سنة يوبيلية تبدأ في 9 شباط 2010 عيد أبينا القديس مارون، وتنتهي في 2 آذار 2011، عيد القديس يوحنا مارون البطريرك الأول، وتكون بعنوان "مار مارون – شهادة إيمان ومسيرة شعب". وتهدف هذه السنة اليوبيلية إلى الصلاة والتفكير والتوبة والعودة إلى التاريخ والتأمل فيه لأخذ العبر وإحياء القيم المارونية وتجسيدها من جديد في رسم استراتيجية كنيستنا للألفية الثالثة. وكنيستنا المارونية، إذ تحيي هذا اليوبيل، فهي تستجيب لمستلزمات ثلاثة: الزمن كبعد لله، واليوبيل كسنة مكرسة للرب وقديسيه، والمجمع كمحطة من محطات تاريخ كنيستنا "لأن الكنيسة لا تعيش إلا مجمعيا"([2]). الزمن في المسيحية هو بعد لله بفعل التجسد. فهو "تم بدخول الله عبر التجسد في تاريخ الإنسان. الأبدية دخلت في الزمن: "فهل من إتمام أعظم من هذا؟"([3]). هذا يؤكد أن "للزمن في المسيحية شأنا أساسيا"([4])، كما يؤكد أن "المسيحية ديانة متجذرة في التاريخ"، لأنه كما يقول تيار دي شاردان "تلاقى الله بالعالم من خلال شخص يسوع المسيح". و"من علاقة الله هذه مع الزمن ينشأ واجب تقديس الزمن"([5])، وبالتالي يتم تكريس أزمنة لله: أياما أو أسابيع أو سنوات لأن يسوع المسيح الذي هو سيد الزمن، "هو هو أمس واليوم.. وإلى الأبد" (عبر: 13/8). إن الاحتفال بسنوات اليوبيل هو أمر عرفه العهد القديم، وتواصل في تاريخ الكنيسة. فسنة اليوبيل هي سنة المسيح الرب المقبولة والمكرسة لله وقديسيه. إنها سنة المساواة والعدالة والغفران والمصالحة والتوبة، سنة النعمة الخاصة للإنسان وللجماعة. إنها سنة المحبة والفرح "لا الفرح الداخلي فقط بل الفرح الذي يظهر في الخارج"([6]).
إن المجمع البطريركي الماروني، كما سينودس الأساقفة من أجل لبنان، إنما يعكسان دور العناية الإلهية في التهيئة ليوبيل سنة مار مارون. حتى ليمكن القول إن السينودس والمجمع كانا في الحقيقة المدخل لهذا اليوبيل. فهو يوبيل بالغ الأهمية ليس فقط لدى الموارنة، بل لدى كافة المسيحيين وغير المسيحيين في لبنان والمشرق وبلاد الانتشار، نظرا لأصالة الموارنة وموقعهم في مسار الكنيسة الجامعة ودورهم على امتداد 1600 سنة من التاريخ.
فلئن كان المجمع البطريركي الماروني بمثابة "عنصرة الكنيسة المارونية"، فإن الاحتفال باليوبيل الألف وستماية سنة على وفاة مار مارون، هو بمثابة "ربيع جديد للحياة المارونية". وفي الحالتين "فإن كل يوبيل في تاريخ الكنيسة هو من تدبير العناية الإلهية"([7]) على حد قول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. ثلاثة عناوين تطبع هذا اليوبيل يهمنا أن نتناولها ونشدد ونؤكد عليها: أولا: ماذا يمثل لنا مار مارون اليوم؟ ثانيا: ماذا تعني لنا المارونية؟ ثالثا: أية علاقة بين المارونية ولبنان الأرض.. والقضية!
أولا: مار مارون: القداسة، القديس.. والكنيسة! 1- تفخر الكنيسة المارونية بانتسابها إلى القديس مارون شفيعها ومرشدها. والقداسة هي قبل كل شيء صفة لله وفي الله، بل هي ميزة جوهرية لدى الخالق. وكلما وفي كل مرة تتشوق الذات البشرية إلى المشاركة في الحياة الإلهية، اقتربت أكثر من قداسة الله. وبهذا كان يسوع المسيح الأول بين القديسين. واعتبر جميع الذين تعمدوا على اسم المسيح، مشمولين بألوهية الرب يسوع، وبالتالي فهم في عداد القديسين… وهي الصفة التي أطلقت على الجماعة المسيحية الأولى وحددت هويتها الروحية.
2- والقداسة هي قبل كل شيء علاقة خاصة بين الإنسان والله القدوس، أي المكرم. إن التعرف على القداسة هو المدخل للتعرف على القديسين في تاريخ الكنيسة. وفي المعاجم اللاهوتية، إن الله وحده قدوس لأن القداسة تعبير عن مدى قوته وكمال كيانه. كما تشمل أيضا الأشخاص والأشياء والأماكن الخاصة به والتي تعتبر من القدسيات. إن الله هو قدوس في ذاته وأما الإنسان فهو كائن مدعو إلى القداسة. وبحسب المجمع الفاتيكاني الثاني فإن كل الشعوب مدعوة إلى القداسة بفعل انتسابها إلى الكنيسة إذ باشتراكهم بقداسة الكنيسة يصبحون مقدسين لأن القداسة أعطيت للكنيسة بواسطة المسيح. وفي بداية الكنيسة كان القديسون هم الشهداء الذين جسدوا البطولة الروحية في مواجهة الاضطهاد والظلم. وفي ما بعد وضعت الكنيسة المبادئ والأسس والشروط لإعلان القديسين!
3- إن طريق القداسة يتحدد خارج الزمان والمكان بدينامية العلاقة بين الإنسان والله، ذلك أن رؤية الله والتمتع بالخلاص في أخدار الأبرار والقديسين هو هدف نهائي لدى الإنسان المؤمن. لكن هذه الطريق مليئة بالصعاب والعذابات والآلام في صراع الجسد والروح للوصول إلى ما يسميه اللاهوتيون: "الانتماء إلى الله لا إلى الذات"، وممارسة "صلاة القلب" لا صلاة الشفاه ومن ثم الى أن يحقق المؤمن في شخصه وفي ممارسته المثال الأعلى للدين أي: الحب المطلق لله وعمق الإيمان بالمسيح يسوع مما يستدعي التضحية الكاملة ونسيان الذات، أي: إماتة الجسد من أجل تحرير الروح. 4- إن ممارسة الفضائل المسيحية في ما يتخطى الإمكانيات البشرية وصولا إلى درجة البطولة، تسمح بأن يمنح الله القديس ميزات وقدرات فائقة للطبيعة بما يمكنه من اجتراح العجائب. وهذه القداسة ترفع صاحبها إلى مصاف الشفيع الذي يفتح الطريق للناس لقبول النعمة الإلهية ويصبح أشبه بمنارة في العتمة وفي قلب العاصفة تضيء الطريق للنفوس التائهة والمعذبة كي تجد طريقها الصحيح في مسيرتها نحو الله. فالقديسون، كل القديسين، يحيون جميعا في عمق الإيمان الثابت والمؤكد والذي لا حدود له إذ يبقى مشعا في ذاتهم حتى بعد وفاتهم. إنه إيمان لا يمكن أن يتجلى ويتجذر ويتجدد باستمرار إلا بفضل علاقتهم الخاصة بالله الآب وبالرب يسوع وبالروح القدس. إنه "الايمان الراسخ الذي كان الأساس في قيام الكنيسة المارونية".
5- إن المرحلة التاريخية التي عاش فيها مار مارون في شمال سوريا وقبله القديس أنطونيوس الكبير في مصر، والواقعة ما بين القرنين الثالث والخامس، هي مرحلة تحولات كبرى في مسار الكنيسة إذ أصبحت المسيحية ديانة الأمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية في الغرب وفي الشرق. يومها انبلج "تاريخ أصفياء الله"، "وكان مارون أول من غرس حديقة النسك في المنطقة"([8]) عبر مغامرة روحية ريادية أطلقها القديس أنطونيوس وجسدها القديس مارون ومؤداها: أن نفوسا مؤمنة وجدت أنها غير قادرة على إدراك الكمال داخل المجتمع: إما لأنه وثني، وإما لأنه مسيحي بالمظهر فقط، ولهذا قرروا ترك العالم لكي يلاقوا الله مباشرة وعاموديا.. وفي العراء. وهذا هو المعنى الحقيقي للتجربة النسكية والديرية التي انتشرت آنذاك وشكلت طوال قرون، النموذج الأهم للحياة المكرسة. لقد وصل الأمر بهذه الجماعة إلى حد القطيعة مع العالم "المدنس"، وعمد تيار الحبساء إلى تجسيد القداسة المسيحية بفضل حفنة من المختارين والأصفياء القادرين والمتحمسين على حمل الرسالة الإنجيلية في صفائها الأول. فأصبح الناسك أو الراهب العائش في الزهد والتقشف والحامل حرارة الإيمان بالله شأن مار مارون، هو المدافع لا عن حقوق الكنيسة وإبراز تفوق الإيمان المسيحي فحسب، بل المؤكد على أن الشخص البشري الذي من أجله تجسد الله إنسانا بشخص يسوع المسيح هو حامل لقيم أكثر أهمية حتى من الحياة نفسها. في هذا الإطار، ومن ضمن هذه الرؤية، تبلورت الفلسفة الماورائية أو الأخروية لمار مارون وتلامذته من النساك والرهبان والزهاد في القرن الخامس.
6- هذا البعد الأخروي المبني على الهبة الشخصية هو الذي منح القديس مارون القدرة على تشكيل حالة روحية غير عادية كانت في أساس بناء كنيسة غير نمطية (athypique)متميزة عن الأنموذج العام لبناء الكنائس. فلم تبن على اسم حاضرة أو رسول بل أخذت أصولها من إشعاع رجل وإشعاع دير: إنها الكنيسة المارونية. فهي كنيسة نسك وعبادة. ارتبطت منذ البداية برجل حبيس لا برجل ذي منصب أو زعيم كنسي. ومع تطويب شربل ورفقا والحرديني تعود الكنيسة المارونية إلى ذاتها وإلى تاريخها الممتد عبر العصور، إلى جذورها، إلى هويتها الأولى مع مار مارون: كنيسة للنساك والقديسين! أجل، إن أولى سمات هوية هذه الكنيسة تعود إلى فرادة المؤسس، والأساس. مار مارون، هذا الداعية الإنجيلي النبوي بالمفهوم البولسي الذي استطاع بإيمانه الحي ونشاطه الخارق ونمط حياته المثالي وكرازته النبوية وإشعاعه وتألقه في محيطه أن يضع القاعدة الروحية لكنيسة حملت اسمه استثناء عن بقية الكنائس فصار رأس كنيسة منسوبة إليه. إن هذا الاستحقاق الاستثنائي لمار مارون الذي منحه سمة القائد الروحي في سوريا الشمالية، ومن ثم في لبنان، يعود إلى الجذرية الإنجيلية التي تجسدت في ممارسته لثلاثة أنواع من فضائل البطولة:
-البطولة الرسولية في هداية الوثنيين في الريف السوري وبناء الكنائس فوق هياكلهم بدءا من جبل سمعان: هاديا ومبشرا بالكلمة. -البطولة الروحية وتعبيرها في تمسكه بالمثل المسيحية العليا إلى درجة الاستشهاد الحي تشبها بالمسيح في قهر الجسد: الإقامة في العراء غير الثابت وفوق عمود تعبيرا عن التعلق بالوطن السماوي واقترابا من الله وانفتاحا على السماء والتحرر من الأرض إلى درجة الانفصال عنها. حسبه في ذلك التشبه بالمسيح الذي سمر على الصليب في العراء. -البطولة الإنسانية حيث يلتقي الإيمان والإنسانية في خدمة شعب الله جسديا وروحيا بقوة العجائب التي اجترحها القديس مارون مستلهما ومستعينا في كل ذلك بالروح القدس كونه كاهنا لا ناسكا فقط. هذه البطولة الجذرية بأبعادها الثلاثة فرضت نفسها على التاريخ الديني – الاجتماعي في عصره، وبعد عصره.. إذ جعلت منه قوة تأسيس في الكنيسة والجماعة، أي جعلت منه رجل بدايات! وهذا يفسر معنى الصراع على مكان دفنه آنذاك، كما يفسر استمراره عبر الزمن واحتفالنا بيوبيله الألف وستماية اليوم.
ثانيا: في المارونية: الوجدان.. الذاتية… والهوية. 7 – يمكن تعريف المارونية "بأنها حركة مسيحية روحية ثقافية تجديدية أطلقها القديس مارون وهي تجسد شوق الإنسان المطلق إلى الله وتوقه المطلق إلى الحرية ودوره الإنجيلي في خدمة محيطه ترقيا وانفتاحا. ولذا فهي ترى في التنسك مرقاة مباشرة إلى الله، وفي الخلقيدونية التعبير الإيماني حول طبيعة المسيح، وفي لبنان أرضا لميعادها، ومعقلا لحرية الإنسان".
8 – إن الكلام على "المارونية" (La Maronité) هو أكثر اتساعا من الكلام على الكنيسة المارونية لأنه يشمل العديد من المظاهر والأفكار المارونية المتعددة والمتنوعة التي لا يمكن أن تدخل إلا جزئيا في إطار الواقع الكنسي الماروني. فلقد مر الموارنة بخمس مراحل متعاقبة: من فرد هو "مار مارون" إلى مجموعة (Groupe) هي "الموارنة" فإلى جماعة دينية منظمة (Collectivité) هي "بيت مارون"، ومن ثم إلى جماعة مؤسسة (Communauté) هي "المارونية" (Le Maronitisme) بوجهيها الروحي الكنسي = الكنيسة المارونية، والسوسيولوجي أي الطائفة المارونية. وبهذا تكون "المورنة قد انتقلت إلى مستوى الوجدان الجماعي للطائفة أو ما يسمى: الإيديولوجيا المارونية أو العقيدة المارونية. والتي قال فيها أحد المؤرخين: "يمكن اعتبار الموارنة شعبا قائما بذاته يتميز بخصائص إتنية، ومذهب واحد، وتاريخ قديم. فهم عاشوا على مدى أجيال في بقعة محصورة واحدة وتكلموا في حين من الزمن لغة مميزة، ما زال لها أثر في كتبهم الدينية (هي السريانية).. واحتفظوا بذكريات تاريخية تتصل بالماضي القريب. وكان لهم إضافة إلى ذلك تاريخ سياسي وحياة سياسية مستقلة تحولت في ذاكرتهم إلى أسطورة وطنية. ولعبت الكنيسة المارونية التي هي أكثر المؤسسات صمودا واستقرارا في تاريخ الشعب الماروني دورا خطيرا للحفاظ على فكرة الكيان الوطني وتطويره والدعوة إليه"([9]).
إن مقاربة علمية لتاريخ الموارنة تؤكد أن العقيدة المارونية هي المحور الأهم في تاريخ الجماعة المارونية ببعديها الديني والمجتمعي لأنها تخدم مصالحها وتعكس نفسيتها وتطلعاتها وتضبط ممارساتها وتحدد أهدفها وتفسر واقعها في حاضرها وماضيها، وتعكس نظرتها إلى المستقبل، وتبلور استراتيجيتها للوصول إلى غاياتها وتشكل معيار فاعليتها التاريخية والبوصلة الضرورية لتحديد علاقتها بالآخرين! وطوال تاريخها أكدت الجماعة المارونية على إيمانها بأمرين متلازمين متكاملين كقاعدة لهذه الإيديولوجية وكتعبير عن القضية اللبنانية: النضال الروحي لتحرير الإنسان، ولبنان الحرية كرمز لهذا التحرير والذي لا يطاول الموارنة وحدهم، بل ينسحب على النسيج العائلي اللبناني بكل طوائفه!
9 – تنطلق المارونية من ينبوع أساسي هو الوجدان الماروني. وهو وجدان تبلور عبر التاريخ ولا سيما في زمن الأزمات التي تعرض ويتعرض لها الموارنة. ويختصر البطريرك الدويهي هذا الوجدان التاريخي بأربعة: "تاريخ جماعة، تملك بنية دينية مميزة، وتحيا في محيط أوسع يهددها في كل ظرف، وشعب يهب للدفاع عن ذاته". ولكي يكتسب هذا الوجدان معناه الحقيقي لا بد له من "حدث مؤسس للتاريخ الماروني". وهذا الحدث هو هجرة الموارنة من أرض سورية إلى أرض لبنان. وكما يقول المطران حميد موراني: "لا فرق إن تمت الهجرة المارونية دفعة واحدة أو على دفعات خلال عصور، بل المهم أن الموارنة يضعون في أساس تاريخهم الهرب من الإضطهاد والبحث عن الحرية والاستقلال بالذات. فوجدان كل ماروني يولد من هذا المعنى، وسيبقى هذا المعنى المبدأ المفسر لكل أحداث تاريخ الموارنة وسيبقون في حدود هذا التاريخ"([10]). أبعد من ذلك، فإن البعد الإيماني يعطي المعنى لتاريخ الموارنة. فالإيمان الذي عاشه الناسك مارون أصبح قوة تفعل في تاريخ شعب. "وأما الهجرات المتوالية من سورية فقد حملها الموارنة معنى واحدا، وهو معنى التخلي عن الراحة والأرض والغنى في سوريا إلى أرض فقيرة فيها الزهد والقلق، وكل ذلك أمانة لإيمانهم وتعلقا بحريتهم… وهذا الحدث (بالنسبة إلى الموارنة) ليس مجرد حدث في سلسلة أحداث التاريخ.. إنه بداية تاريخ جديد هو تاريخ الموارنة"([11]).
10- سمة أساسية من سمات هذه "المارونية" هي الذاتية، وتحديدا الذاتية المارونية وتعبيرها الهوية المارونية. ويتناول الفصل الثاني من نصوص المجمع البطريركي الماروني (2006) "هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها"، فيرى أنها: 1) "كنيسة انطاكية سريانية ذات تراث ليتورجي خاص؛ 2) وكنيسة خلقيدونية النسبة؛ 3) وكنيسة بطريركية ذات طابع نسكي ورهباني: 4) وكنيسة في شركة مع الكرسي الرسولي الروماني؛ 5) وكنيسة متجسدة في بيئتها اللبنانية والمشرقية؛ 6) ومتجسدة في بلدان الانتشار"([12]). بالإضافة إلى عناصر انتماء الكنيسة المارونية هذه، فقد برز تأثيرها 1) في كون مؤسسها رجلا هو القديس مارون؛ 2) وفي كونها لم تبن على قاعدة إتنية أو عرقية أو جغرافية أو سلطوية؛ 3) كما ظهرت خصوصيتها في انتقالها من القاعدة – الدير إلى القاعدة – الوطن؛ 4) ومن مناجاة الله من قلب الدير ومن فوق العامود، إلى مناجاته من فوق الجبل، كما في قدرتها الهائلة على الجمع بين المحدودية (دير مارون والخط العامودي) وبين الكونية (العالم والخط الأفقي)، وذلك بفضل إيمانها الكاثوليكي وانتشارها في أقطار العالم وتعبيراتها الثقافية في مختلف لغات العالم. وهكذا، بفضل الجمع بين عناصر انتماء الكنيسة المارونية الستة تلك وعناصر هويتها الأربعة هذه، يمكن التأكيد على أن الجماعة المارونية بلغت مرحلة الذاتية المميزة وهي ذاتية حضارية تاريخية لها حياتها ومقوماتها وميزاتها الخاصة. وهي هذه المميزات العشرة التي كان لها دورها الرائد والمركزي في إبراز القضية اللبنانية وفي صياغة الميثاق الذي يجسد هذه القضية.
إن الهوية المارونية ليست هي الهوية اللبنانية بل هي مكون أساسي من هذه الهوية. فالهوية اللبنانية مكونة من هويات متعددة هي هويات الطوائف. إنها المألفة (Synthèse) الجامعة بين هذه الهويات المختلفة والمؤتلفة في ميثاق الحياة المشتركة وهو ما أعطى لبنان ميزته وجعل منه استثناء في العالم العربي بقيام نظام يحترم الكرامة البشرية ويتيح ممارسة الحريات الأساسية، الشخصية منها والجماعية، ويتبنى الديمقراطية نظاما للحكم. وبناء عليه، فإنه من حظ اللبنانيين أن القوى العقائدية الشمولية القومية منها والدينية والأصولية لم تصل إلى حكم لبنان حتى الآن على الأقل. وعلى جميع اللبنانيين الواعين أن يناضلوا كي لا يقع وطنهم في مثل هذه المأساة، وهذه التجربة القاتلة التي يعانون منها اليوم ويواجهونها تحت تهديد السلاح! إن في ذلك إنهاء لهوية لبنان ومعناه ودوره حين يصبح البلد مربوطا بمرجعيات خارجية ليس بالمعنى الثقافي فحسب بل بالمعاني السياسية والعسكرية والإيديولوجية والمذهبية أيضا. ففي مثل هذا التوجه وهذه المحاولة التي يتعرض لها شعب لبنان نفي للبنان وتمزيق لهويته الوطنية وإلغاء لحرية أبنائه ومدخل إلى الحرب الداخلية فيه. بكل اختصار، إن الذين يقومون بذلك إنما يعملون لزوال لبنان. ثالثا: المارونية – الأرض .. ولبنان – الميثاق 11 – إن الغنى الماروني المتمثل بالانتشار في العالم، وبتعدد المجالات الثقافية عبر القارات، كان يمكن أن يتفكك، والشخصية المارونية ذاتها كان يمكن أن تتشظى "لو لم يكن هناك مركز ثقل (Centre de gravité) معد لتأمين وحدة الموارنة والمحافظة على تماسكهم، وهذا المركز هو لبنان. ولقد كان هدف البطاركة التاريخي في نقل مقراتهم فوق الجغرافية اللبنانية من كفرحي إلى يانوح إلى إيليج إلى قنوبين إل بكركي بالإضافة إلى المستلزمات الأمنية، تأكيد ومباركة هذا الزواج الذي لا انفكاك فيه والذي يقوم على الحب بين الماروني وأرض لبنان"([13]). فالمارونية كتبت تاريخها الحقيقي الأول، لا في كتب من ورق، بل في كتاب أرضها إذ جعلتها أرضا للعطاء وللعبادة وللدفاع عن الذات. "فهي التعبير الأهم عن استقلالية الموارنة، وهي أفق حياتهم الوحيد"([14]). لقد كان الزمن الماروني الأول زمنا عاموديا، أي زمن الأرض اللبنانية المارونية بحدودها الجغرافية الطبيعية ولهذا ربطت المارونية أرضها بالسماء وأدخلتها في إيمانها وأعطتها بالتالي سمة القداسة. لقد صارت أرض لبنان أفقا ومنطلقا للموارنة، وهذا يعني الربط المحكم بين أرض لبنان وتاريخ الموارنة.
12- إن الأرض اللبنانية هي "إرث تكونت من خلاله وعليه الهوية التاريخية المارونية" والموارنة مهما فعلوا في العالم "يبقون بحاجة إلى الأرض التي تجسد هويتهم الخاصة والتي تربطهم بتاريخهم العريق، تاريخ قداسة وصراع من أجل البقاء والشهادة على الإيمان والقيم الإنسانية"([15]). فلقد ارتبط التاريخ الماروني بلبنان أرضا ووطنا.. والأرض هي الوطن والكيان، وقيمتها هي في ما تجسده من قيم وخبرة وبعد حضاري ووجودي. ولقد ارتبط اسم لبنان بالموارنة باعتبارهم "جزءا أساسيا من كيانه التاريخي والسياسي"، وحيثما ارتحل الموارنة وحلوا، وتفاعلوا مع أوطانهم لجديدة، فإنهم لن ينسوا أرض المنشأ، أرض لبنان التي تبقى في وجدانهم أرض أجدادهم وقديسيهم ومرجعيتهم البطريركية"([16]).. ولأن "الحفاظ على الأرض هو حفاظ على الهوية، ولأن الحفاظ على الهوية هو حفاظ على الكيان والديمومة"([17]).
13- يصف الإرشاد الرسولي لبنان "بأنه مهد ثقافة عريقة وإحدى منارات المتوسط. ولا يجهل أحد إسم بيبلوس التي تذكر ببدايات الكتابة" وفيه أصبحت المسيحية "عنصرا جوهريا من ثقافة المنطقة"، "والجماعات المختلفة فيه هي بالنسبة إلى هذا البلد ثروة فرادة وعقبة في آن… غير أن إحياءه هو مهمة مشتركة"([18]). لقد عمل الموارنة خصوصا، والمسيحيون اللبنانيون عموما، لتحقيق هدفين متلازمين على امتداد تاريخهم: إقامة لبنان الدولة والكيان والمحافظة عليه وتثبيت نهائيته. تأكيد حضورهم فيه وبالتالي القيام بدور أساسي وفعال داخل هذا الكيان. وما دام للوطن بعدان: حضور في المدى.. واستمرار في الزمن، فإن أرضه "أم تجب محبتها، فقيرة كانت أم غنية. إنها الأرض المغذية التي تختزن كنوز التاريخ، وقد شهدت وقائعه ورافقت أجياله، وطبعت جميع الذين أبصروا النور عليها وضمتهم، في مساء العمر، إلى صدرها، ليروي الخلف عن السلف ما نسجه في حياته من تاريخ"([19]). ولذا فإن "الذين يتخلون عن أرضهم عن طريق بيعها، خاصة لغير اللبنانيين، إنما ينتهكون حرمة وطنهم وخاصة الذين يرقدون في طبقاتها على رجاء القيامة السعيدة"([20]).
14 – على أهمية تعلقنا بلبنان الأرض المقدسة، ولبنان الرمز في تاريخ الموارنة، فإن لبنان، في ما يؤكد ذلك ويتخطاه ويبرره دينيا وفلسفيا وتاريخيا هو قبل كل شيء، وبعد كل شيء "ميثاق من أجل قضية". "فلكي يكون، لا يحق للبنان أن يكون كيف ما كان، فإما أن يكون قضية مطروحة على الإنسانية في الشرق وفي العالم أو لا يكون"([21]). تلك هي دعوته التاريخية، وذاك هو معنى أن يكون "الوطن – الرسالة" كما وصفه الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني. هذا الميثاق بين الطوائف اللبنانية هو في جوهره فعل إرادة وفعل حرية في آن. إنه تجسيد لقيم روحية متفاعلة. إنه مسألة تنمية وترقية للإنسان اللبناني – العربي – المشرقي، وليس مجرد تسوية ثنائية كما يتوهم البعض! إنه لبنان الرهان، ليس على الأرض فقط، بل على القضية الإنسانية التي يطرحها وجودنا المميز والذي لا شبيه له في صيغ العالم. وبهذا "فلبنان ليس ميثاقا ثنائيا بين مسلمين ومسيحيين بل ميثاق أقليات حضارية تقمصت في طوائف بشرية"([22]).
15 – الميثاق هو فعل ثقة بالقضية اللبنانية صاغته، بل التزمت به الطوائف اللبنانية يوم هربت إلى هنا، وفي مقدمتها الطائفة المارونية، فقد خسرت كل شيء إلا تراثها الروحي الذي سلم وحده من التدمير. لقد أدركت هذه الطوائف، منذ نزولها في لبنان، أنها إنما جاءت لصون هذا التراث. وهكذا كان الميثاق جزءا من دواخل ضمائرها، فصادقت عليه ضمنا كل أقلية قادمة إلى هذه الديار قبل أن يصاغ بتفاهم مكتوب أو غير مكتوب في مرحلة الاستقلال. ولأنه تعبير عن إيمان وحقيقة وشرف "فإن ميثاقا كهذا لا يجوز أن يكتب لأن ضمانته الوحيدة هي الإيمان بالله والثقة بالإنسان"([23]). وهذه القضية تمثل أكبر تحد للإيديولوجيات الشمولية والعرقية والدينية والأصولية التسلطية في المنطقة، وهو ما جعل هذه الإيديولوجيات تعلن عداءها لقضيتنا ولوجودنا من الأساس شعبا وكيانا ودولة ونظاما.. ولا تزال! وهو ما يحملنا جميعا مسؤولية تاريخية كي نحمي وننقذ ميثاق الحياة المشتركة بين كافة الطوائف اللبنانية، والذي كان وسيبقى فعل إرادة وفعل حرية في آن. خاتمة لقد أعطى القديس مارون كنيستنا وشعبنا ووطننا إحدى المكونات والمبررات الأساسية كي تكون لنا قضية، بل أن نكون جميعا كلبنانيين نحن القضية: القضية الأم. ويكفي أن يشار إلى أنها قضية إنسانية حضارية لاهوتية تجسدت في الميثاق بين اللبنانيين، فكان بتنوعه وغناه ومداه "أعظم مبادرة إنسانية عرفتها الشعوب". فالميثاق بين اللبنانيين مثلث الوجوه: واحد ينظر إلى الإنسان والثاني إلى التاريخ.. والثالث إلى الله. وبهذا حول الميثاق لبنان "من موئل إلى معقل، ومن منفى إلى وطن"، إذ صار لبنان وطن الأقليات بشرا ووطن الأكثريات حضارة. فأصبح خلاصة الشرق والوريث البكر للثروة المشرقية".
أما المعنى اللاهوتي للبنان، فيطرح مسألة علاقة الأديان وتحاورها وتفاعلها. ولا سيما اللقاء والحوار بين المسيحية والاسلام: هذا اللبنان الرمز والنموذج والمختبر ووطن القيم المتفاعلة عبر الميثاق يهوي من عليائه إذا تحول الميثاق عن جوهره وأصبح مجرد مطامع متضاربة ومفاوضة ومقايضة ومحاصصة ومجرد تسوية وتوازنات. عندها يبان الطائفية ويكشف عن أنيابه كأخطر مؤامرة على القضية، لأنه يسقط الرهان على الانفتاح والحوار ويفرض الانغلاق والزبائنية والإقطاعية.
أجل، إن وجودنا مبني على الميثاق ومبرر به، والميثاق أخذ، وعطاء، وفعل وفاء، وثقة. فنحن في هذا نثبت ذاتنا ولا نطلب ضمانة من أحد. فالضمان للبنان هو الإيمان به كميثاق من أجل قضية. وهي قضية من أشرف قضايا العصر، لأنها قضية الخصوصية والفرادة إنسانيا ولاهوتيا وجغرافيا. ففي هذا الشرق المسطح جغرافيا والموحدن ثقافيا والمتماثل سياسيا وتسلطيا والمنبع للديانات الموحدة، يشكل لبنان وضعا شاذا على كل هذه المستويات: فهو منطقة جبلية لا صحراوية بجغرافيته وهو تعددي بثقافته، وهو متنوع بدينه، وهو ديمقراطي بسياسته. إنه تعددي في كل شيء، وهذه هي فرادته في قلب الوحدنة (Unicité)بذلك تتحدد قيمته ومبرر وجوده.
منذ ما يزيد على خمسة عشر قرنا، وشعب لبنان وأرضه هما المحور الذي يدور حوله مصير الموارنة. ومع أن المارونية لم تولد في لبنان، ومع أن أكثرية الموارنة تتواجد اليوم في دول الانتشار في العالم، فإن هذا الواقع لا يغير شيئا من الحقيقة القائلة، والمركوزة في قلب كل ماروني وعقله ووجدانه أو يفترض أن تكون كذلك، بأن وطنهم الحقيقي، كما أراده القديس مارون، هو قبل كل شيء حيز روحي (Espace spirituel)، وأن المارونية هي مشروع حرية رمزها لبنان، وأن مشروع الموارنة، كما مشروع اللبنانيين، هو تحرير الإنسان وهو مشروع مرفوع على ملتقى القارات الثلاث يجسد مصير الشرق كله: مصير المعذبين والمتألمين والمهمشين فيه والمطرودين من أوطانهم والمضطهدين في حرياتهم، بحيث تتلاقى في وطن الأرز أمنياتهم وتطلعاتهم للأرض والحرية.فمع مار مارون، والموارنة ومن ثم مع جميع العائلات الروحية التي قصدت لبنان تباعا، ولا تزال، تحددت مشروعية لبنان الكيان قبل أن تترسم حدوده السياسية، وخلاصتها: "أن لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي جعل وجوده قضية. لأجلها كان وسيكون، أو لن يكون، بدونها لا حاجة لوجوده، ومعها وجوده ضرورة عالمية". .. أجل، إن عطر قداسة مار مارون، كان وسيبقى الخمير الحي والأريج الفواح لربيع الموارنة المتجدد والدائم عبر التاريخ!
وكي تعطي هذه السنة اليوبيلية ثمارها المرجوة، عمدنا إلى تعيين لجنة مركزية برئاسة سيادة المطران بولس إميل سعاده، وعضوية سيادة المطران يوسف أنيس أبي عاد، وسيادة المطران سمعان عطالله، وسيادة المطران يوسف محفوظ، والمونسنيور منير خيرالله أمينا عاما، والأب كرم رزق عن الرهبانية اللبنانية المارونية، والأب عبدو أنطون عن الرهبانية المريمية المارونية، والأب سركيس الطبر عن الرهبانية الأنطونية المارونية، والأب مروان تابت عن جمعية المرسلين اللبنانيين، والخوري ناصر الجميل، والأب هاني مطر، والأم دومنيك الحلبي والأخت جورج ماري عازار عن الرهبانيات النسائية، والدكتور نبيل خليفه والدكتور أنطوان الخوري حرب، والدكتور أنطوان سعد. وكلفناها القيام بالترتيبات اللازمة ومواكبة الاحتفالات والنشاطات الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية، مستلهمة الروح القدس في السير على خطى القديس مارون وحمل الرسالة الإنجيلية والشهادة للمسيح.
وإننا ندعو كل أبنائنا الموارنة، أينما وجدوا، في لبنان وفي بلدان النطاق البطريركي وفي بلدان الانتشار، كما ندعو الأبرشيات والرهبانيات والجامعات والمدارس والمؤسسات والجمعيات الكنسية والمدنية والمجموعات والنوادي والروابط، إلى الإحتفال بهذه السنة اليوبيلية إنسجاما مع ما ترسمه اللجنة المركزية ومع ما يتناسب وأوضاعها وحضورها وشهادتها في بلدان وجودها، حاملة بشارة الإنجيل بنكهة القديس مارون النسكية.
وندعوهم جميعا إلى تنظيم إحتفالات دينية وزياحات وتطوافات ونشاطات ثقافية واجتماعية. وإلى تنظيم زيارات حج إلى الأماكن المارونية المقدسة والمراكز البطريركية. وقد عينا المراكز التي تمنح فيها الغفرانات خلال سنة اليوبيل على الشكل التالي: دير مار يوحنا مارون كفرحي، دير سيدة إيليج، دير سيدة قنوبين، دير سيدة بكركي، موقع قبر مار مارون في براد قرب حلب.
عسى أن يستجيب لنا الله بشفاعة أبينا القديس مارون وجميع قديسينا وله منا هذه الصلاة: أيها الرب الإله، يا من دعوت صفيك مار مارون إلى السيرة النسكية، وكملته بالفضائل الإلهية، وأرشدته في الطريق الصعب إلى الملكوت السماوي؛ نسألك في يوبيل ألف وستماية سنة على دعوة صفيك مارون المختار إلى بيت الآب السماوي، وبشفاعته، أن تغمرنا بمحبتك، فنسلك في سبلك، ونرعى وصاياك، ونسير على خطى أبينا القديس مارون، فتنبض سيرته المقدسة في أرجاء حياتنا، ونبلغ من حبك الغاية التي بلغ، ونحمل إنجيلك في هذا المشرق وفي العالم كله، ونهتدي به إلى مجد القيامة والحياة الدائمة فيك، لك المجد والشكر وإلى أبيك المبارك وروحك الحي القدوس، إلى الأبد. آمين. التفسيح من الصوم والقطاعة من المعلوم أن الصوم يقوم بالإمتناع عن الأكل والشرب من نصف الليل إلى الظهر – عدا الماء الذي لا يفسخ الصوم – وأن القطاعة تقوم بالإمتناع عن أكل اللحم والبياض. ولكننا نظرا إلى أنه ليس بإمكان البعض من أبنائنا أن يجدوا الطعام المنوع الذي يحتاجون إليه، وهذا ما يضطرهم إلى الإكتفاء بما في متناولهم، نفسح من هاتين الشريعتين من صوم 2010 إلى صوم 2011 كما يلي:
1- نسمح بأكل البياض في هذه المدة.
2- يجب الصوم والإنقطاع عن أكل اللحم في يوم اثنين الرماد ويوم الجمعة من أسبوع الالام.
3- يجب الإنقطاع عن أكل اللحم يوم الجمعة على مدار السنة، غير أنه يمكن أكل اللحم يوم الجمعة إذا وقعت فيه الأعياد الواجبة بطالتها، وهي:
أ- الميلاد، رأس السنة، والغطاس، ومار مارون، ومار يوسف، ومار بطرس وبولس، وانتقال العذراء، وارتفاع الصليب، وجميع القديسين، والحبل بلا دنس، وعيد شفيع الرعية.
ب- وفي الفترة الواقعة بين عيدي الميلاد والغطاس.
ج- وفي الفترة الواقعة بين عيدي الفصح والعنصرة
د- وفي أسبوع المرفع.
لقاء التمتع بهذا التفسيح، نحض أولادنا الأعزاء على أن يعنوا بالأمور الروحية ويتمموا الواجبات الدينية ويمارسوا أعمال التقشف والإماتة والمحبة ولا سيما تجاه المحتاجين والمرضى وأن يخصص القادرون منهم نفقة يوم في الأسبوع طوال هذا الصوم لمساعدة اخوانهم المعوزين يدفعون بدلها لصندوق المساعدات في أبرشيتهم، ليكون صومهم مشاركة محسوسة في التقشف والالام، وأن يصلوا على نية الحبر الأعظم لأجل إحلال السلام في ربوعنا وفي العالم أجمع، ومن أجل تطبيق ما جاء في الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" وارتداد الخطأة إلى التوبة وانتصار أمنا الكنيسة المقدسة وتحقيق وحدتها، ومن أجل نجاح تطبيق تعليم مجمعنا وهذا خير ما يقومون به بدلا من الصوم والقطاعة".