تقع الخنشارة على سفح رابية خضراء قامت عليها منذ القديم أشجار الصنوبر، ويرجّح أن اسمها كلمة مركّبة من كلمتين سريانيتين، أي جماعة، أي الساهرون اليقظون والمقصود جماعة الرهبان.
دير الرهبانية الشويرية
يقع دير القدّيس يوحنا الصايغ على طبقة صخرية فوق وادي أبي عيسى في خراج الخنشارة على تخوم الشوير، وتحيط به صخور وأشجار السنديان والصنوبر المعمّرة.
تأسّس هذا الدير في 10 كانون الأول سنة 1710، حين أتى عدد من رهبان دير سيدة البلمند الواقع جنوب طرابلس، وقصدوا إنشـاء دير خاص بهم، وسَنّ قوانين جديدة يسيرون عليها. وعاشوا بداية مع كاهن مقيم في غرفة محاذية لكنيسة قديمة على اسم القديس يوحنا الصايغ. وبعـد مدة، تمّ الاتفاق على شراء الدير ومزرعـة بيت عيال القريبة منه. ومنذ ذلك الحين، توارد إليه كثيرون من كل حَدب وصـوب، حتى أصبح عددهم كافيا لانتخاب رئيس عام للرهبنـة، وأصبح الدير الأم للرهبانيـة الشويرية ومركز الرئاسـة العامة. وقد فتحت عام 1735 أول مدرسة ابتدائية في المنطقة تابعة للدير.
ومن أجمل الآثار التي تملكها الرهبنة، المكتبة القديمة التي تضم مخطوطات قديمة غنية بموضوعات مختلفة التواريخ، يرقى بعضها إلى القرن العاشر. وهناك الايقونات المقدسة من مختلف المدارس الايقونوغرافية، وهي موزّعة على معبد الدير القديم وكنيسة مار نقولا وردهة الايقونات. أما الايقونوستاز أو واجهة الايقونات في كنيسة مار نقولا (والذي تمّ إنجازه من العام 1719 وحتى العام 1925)، فهو يعتبر تحفة بديعة في فن الحفر على خشب الجوز، وهو على جانب كبير من الاتقان والزخرفة، طوله ستة أمتار ونصف وعلوّه أربعة أمتار ونصف.
داخل الدير كنيسـة القديس يوحنا التي سَبقت إنشاء الدير بسنين عديدة، وكانت شِبه مزار للقرى المجاورة، وهي تحوي صورا قديمة جدا يرقى أحدثها إلى عام 1710. أما ميـزة الدير الكبـرى، فهـو احتواؤه علـى أهـم إرث فـريد، ألا وهـو المطبعة العربية الأولى في لبـنان، والـتي صـدرت منهـا كتب روحيـة وجدليـة وطقسيـة عـدة مطبـوعة طباعة جميلـة، ولا تـزال هـذه المطبعة محفوظـة داخـل الدير بكامـل أدواتها.
أما مُنشـئ المطبعة فهـو الشمّـاس العلّامة عبد الله الزاخر، نسبة إلى معارفـه الواسعـة. وقد خطـر له تأسيس أول مطبعة بالحرف العـربي في لبـنان، وأول مطبعـة في الشـرق بآلات من صنعـه، وقد باشـر بصنعها في العام 1723 واكتملت في العام 1733، وطبعت أول كتاب بالحـرف العربي فـي لبـنان وكان بعـنوان «ميـزان الزمـان»، وقد طبـعت منه 800 نسخة. بعدها، توالَـت الكـتب ليبـلغ عددهـا 33 كتابـا عربيـا.
أدخلت الطباعة العربية إلى لبنان من قبل رجال الدين المسيحيين. وأنشئت أول مطبعة حوالى العام 1726م، في دير مار يوحنا الشوير (يوحنا المعمدان) في الخنشارة. وقد تكون ثاني مطبعة في المنطقة بعد مطبعة حلب، التي أنشئت عام 1706م بتشجيع من البطريرك اليوناني الأرثوذكسي في أنطاكية.
دخلت المطبعة هذه المنطقة متأخّرة بالمقارنة مع أوروبا، وفي بادئ الأمر، منع العثمانيون المطابع في أراضيهم منذ القرن 15م، خوفا من وقوع أخطاء إملائية وغيرها في نسخ القرآن، ولم يسمحوا إلّا للطوائف اليهودية والأرمينية واليونانية، في أن يطبعوا بلغتهم فقط. وفي سنة 1726، رفع المنع بالنسبة الى المنشورات غير الدينية، وطبع أول كتاب في إسطنبول عام 1728.
وعندما زار لبنان سنة 1784، ترك لنا الباحث فولني وصفا لهذه المطبعة، فهو يَصف زاخر بقوله: "كانت له الشجاعة بتكوين مشروع ثلاثي: الكتابة وصَهر المعادن والطباعة". إلّا أن هناك طرحا آخر يفضّل الأصل الأوروبي للمطبعة، معتمدا في ذلك على رسالة كتبت من طرف الأب فروماج موجهة إلى تاجر فرنسي في صيدا، والذي يخبره فيها بتركيب مختلف قطع المطبعة، وهو ما يمكن أن يدلّ على أن المطبعة كانت جزئيا أو كليا من أصل أجنبي، وبالخصوص رومانية كمطبعة حلب. لا زالت آلة زاخر معروضة في الدير في مكان مهيّأ كمتحف. وتجدر الإشارة إلى أن مطبعة سانت أنطوان قزحيا في وادي قنوبين شمال لبنان، هي التي أعطت سنة 1585 أوّل كتاب مطبوع خارج أوروبا، وهو كتاب مزامير بالسريانية وبالعربية المنسوخة بالحروف السريانية، والذي ضاع في أيامنا هذه، ولكن وصف في فهرس المكتبة الميديسية (فلورنسا)، وكتاب مزامير ثان نشر سنة 1610م، ويُحتفظ به دائما في دير قزحيا. لم تعرف هذه الكتب انتشارا، وهي كانت محاولات شخصية استعملت فيها آلة طبع متحركة مستوردة من أوروبا، شَغّلها طابعون أجانب.
واندثر بسرعة كلّ أثر أو تذكار لآلة قزحيا، واستمرّ استعمال اللغة السريانية وهي لغة دينية للطائفة المارونية، على رغم سيطرة اللغة العربية المحلية. وساهمت مطبعة دير مار يوحنا والمطابع اللاحقة في تقوية سلطة اللغة العربية في المنطقة، كلغة لنقل العلم في الأوساط المسيحية.
كانت بيروت، على مرّ العقود، عاصمة ثقافيّة وعلميّة وأجنبيّة للعالم العربي، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الكتب والمطبوعات المتنوعة الصادرة أو المطبوعة في بيروت، ندرك كم تزداد أهميتها الثقافية والعلمية والحضارية، لهذا عمد لبنان الرسمي إلى الاحتفال بمرور 250 سنة على وفاة مؤسس المطبعة العربية الأولى في العالم في دير مار يوحنا الصايغ الشمّاس عبد الله زاخر، وقد اتخذ قرار بتحويل المطبعة إلى متحف، وجرى افتتاحه في احتفال رسمي في 12 حزيران 1998، في حضور رئيس الجمهورية اللبنانية والمسؤولين. عِلما أنه في عام 1808م أحضر الراهب سيرانيم الشوشاني مطبعة معه من روما، وأنشأ مطبعة ثانية في دير مار قزحيا خصّصت لطباعة الكتب الدينيّة.
الإرشمندرت د. شربل الحكيم / الجمهورية